03 اغسطس 2022
لبنان ومناورات صناديق الاقتراع
أسدل الستار في لبنان على الانتخابات البرلمانية التي طال انتظارها منذ تسع سنوات، بعد أن تم التجديد للمجلس النيابي مرتين. وقد ساهمت ممارسة هذا الحق الديموقراطي في التخفيف من حدة مناخ الاحتقان والتعبئة الطائفية والمذهبية الذي ساد، منذ أشهر، الحملة الانتخابية من الأطراف كافة، غير أن ما أفرزته صناديق الاقتراع لن يساهم، على الأرجح، في إحداث أي تغيير نوعي في أداء السلطة، وفي تحسين حياة اللبنانيين. وقد شرّع التركيز على كسب المناصرين والحصول على أصواتهم استعمال كل الأسلحة، حتى بين الحلفاء أنفسهم في السلطة وداخل الحكومة. فالصراع لم يكن على البرامج السياسية والتنموية، ولا على كيفية معالجة الوضع الاقتصادي، والعجز في خزينة الدولة والمديونية التي تخطت الثمانين مليار دولار، وإنما صراع على السلطة وكيفية التنافس على كسب أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، وبالتالي استئناف المواجهة داخل الحكومة على الحصص والصفقات.
وكان السباق في هذا المضمار ما أصبح يطلق عليه "حزب العهد"، أي حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، فقد افتتح رئيسه ووزير الخارجية، جبران باسيل، حملاته الانتخابية بشد العصب الطائفي مصوبا سهامه على رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل (الشيعية) نبيه بري، متهما إياه بـ "البلطجي". وكان الرد اجتياح عناصر مسلحة من "أمل" على دراجات نارية محيط المركز الرئيسي للتيار العوني، والاشتباك مع عناصر من المركز، واضعين البلد وأمنه الهش على كف عفريت! غير أن مناصري عون هللوا واشتد عصبهم لما قاله رئيس حزبهم ضد برّي المخضرم، والجالس على كرسي رئاسة المجلس منذ 26 سنة،
والذي سيعود حتما إليها عند انطلاق المجلس الجديد. أما باسيل رئيس التيار العوني، ووزير لثلاث مرات متتالية، ووزير الخارجية الحالي منذ أربع سنوات، وصهر رئيس الجمهورية، سينجح أخيرا في دخول المجلس الجديد، بعد أن تمكن من الفوز في الانتخابات، فهو لم يكن عضوا فيه بسبب فشله في دورتي اقتراع سابقة ومتتالية. كما أن باسيل الطامح لرئاسة الجمهورية قد استمر في حملة التعبئة الطائفية والسياسية أيضا ضد حزب الله، قاصدا إيصال رسائل إلى الإدارة الأميركية، عبر إعلانه أن "لا خلاف أيديولوجياً مع إسرائيل، ولا مع حقها بالوجود الآمن". ثم انتقل إلى تظهير هذا التمايز برفضه أن تضم لائحة العونيين في دائرة جبيل - كسروان (محافظة جبل لبنان) مرشحا شيعيا معمما (رجل دين) من خارج الدائرة سماه حزب الله لهذا المقعد الشيعي الوحيد في هذه الدائرة. فقرّر حزب الله قبول التحدي غير المسبوق بينه وبين تيار الرئيس، وقرّر الاستمرار في خوض الانتخابات، عبر تأليف لائحة خاصة به، فيما رشح العونيون شيعيا آخر من الدائرة نفسها. وكانت النتيجة أن سقط مرشح حزب الله.
وقد بنى باسيل استراتيجيته الانتخابية على الاستمرار في تحدّي بري في دوائر محافظة الجنوب، التي تعتبر "مربط خيل" رئيس حركة أمل، باعتبار أن أكثرية ناخبيها من الشيعة. ورد عليه رئيس المجلس مشبها إياه بالـ "برغوت" الذي يتحرّك كثيرا، وينتقل من هنا إلى هناك، من دون فعل مؤثر! لكن حركة باسيل كان لها بركة عند جمهور الدوائر المسيحية، إذ تمكّن من حصد مقاعد نيابية مكّنته أمس من الحصول على نحو 30 نائبا، وأن يصبح التكتل الأول في البرلمان. وهي خطة باسيل لحشد أكبر تأييد برلماني لعهد عون الرئاسي. كما أنها المرة الأولى التي يتقدّم فيها على كتلة رئيس الحكومة، سعد الحريري، منذ 2005، وهو الذي ناهزت كتلته الخمسة وثلاثين نائبا في دورة انتخابات 2009 في عز زخم فريق قوى 14 آذار السيادي. في حين يسجل في انتخابات أمس تراجعا لافتا في عدد نواب كتلته التي هبطت إلى 20 نائبا، مع اضمحلال تحالف قوى 14 آذار بفعل نشوء محور ثنائي جديد، يضم تياري الحريري وباسيل، أي طرفي الصفقة التي حملت عون إلى القصر الجمهوري، وأعادت الحريري إلى القصر الحكومي.
هذه الصفقة - التسوية التي يدور حولها الصراع بين اطراف السلطة اليوم، وترجمت خلال السنة ونصف السنة من عمرها صفقات دسمة في أكثر من قطاع، مثل الكهرباء والنفط والغاز والاتصالات، فقد حاول "الثنائي الحريري- الباسيلي" تقاسم المغانم بينهما، والاستفراد بصفقات الكهرباء والاتصالات، والتي تصنّف "بقرة حلوبا". فكان بري لهما بالمرصاد عبر الإمساك بوزارة المال التي يجب أن تمر عبرها كل الصفقات، فيما تصدّى حزب القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع داخل مجلس الوزراء مع زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، وآخرين لمنع تمرير مثل هذه الصفقات من خارج الأطر الحكومية والقانونية. وهذا ما أثر بدون شك على شعبية الحريري الذي يبدو أنه يعمل بمعادلة "لكم القرارات السياسية ولي الاقتصاد والمشاريع". وهذه الـ"لكم" تعني عون و"حزب الله"! وقد عبرت قاعدة الحريري (السنّية) عن هذا التململ بشكل جلي في صناديق الاقتراع، إذ رفضت في أكثر من دائرة إعطاء أصواتها للمرشحين العونيين على لوائح "المستقبل"، كما عبر آخرون عن نقمتهم بمقاطعة صناديق الاقتراع، ما أدى إلى تدني نسبة الناخبين بشكل ملحوظ مقارنة بالانتخابات 2009 في دائرة بيروت الثانية، ما نتج عنه تقدم مرشح حزب الله على الحريري في "عقر داره" في العاصمة ذات الأكثرية السنية بأكثر من ألفي صوت. وتمكنت لائحة "الثنائي الشيعي" متحالفةً مع الإسلاميين لأول مرة من حصد خمسة مقاعد من أصل إحدى عشر. وكذلك في طرابلس عاصمة الشمال، وثاني أكبر مدينة بأكثرية سنية، تمكن رئيس الحكومة الأسبق، نجيب ميقاتي، لأول مرة من حصد نصف المقاعد الثمانية المخصصة للمدينة، علما أنه كان يترشح على لائحة الحريري ليحصل على مقعد نيابي، لكن الحريري تجرّع الكأس، وأكد أنه مستمر في هذا الخط، وفي تحالفه مع باسيل. وقد أعادت هذه المعادلة التوتر إلى الشارع في اليوم الذي تلا الانتخابات.
غير أن "الثنائي الشيعي" لا يقف مكتوف الأيدي، على الرغم من دعم حزب الله التسوية -
الصفقة التي أدت إلى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، وحرصه على إنجاح ولايته، فقد قرر برّي وحسن نصرالله الاستئثار بالقرار الشيعي، عبر وضع يدهما على كل المقاعد الشيعية في البرلمان، والتي يبلغ عددها 27. وكان لهما ما أرادا باستثناء مقعد واحد في دائرة جبيل، علما أن الحريري كان يضم في كتلته نوابا شيعة، وكذلك التيار البرتقالي (العوني). والأهم من ذلك أن حزب الله أصر بقوة على إقرار القانون الانتخابي الجديد، القائم على مبدأ النسبية من أجل توسيع دائرة نفوذه وتأثيره في مجلس النواب، والذي تمكّن عبره من تفتيت كتل الأحزاب والطوائف الأخرى، فاتحا المجال لحلفائه والمقربين من النظام السوري من الدخول أو العودة مجدّدا إلى البرلمان. فدخل نحو أكثر من 15 نائبا موزعين بين السنة والمسيحيين والدروز لكي تصبح كتلة محور "الممانعة" تضم أكثر من 45 نائبا، أي أكثر من ثلث المجلس النيابي. وفيما عين بري، مرتكزا على هذا التكتل، تهدف إلى مراقبة الحكومة ومشاريعها والضغط عليها، فإن ما يهم نصرالله منه حماية ظهر حزب الله تجاه أي تطور يحدث في الساحة السورية، أو على الصعيد الإقليمي. والاثنان يقومان في الوقت عينه بإبقاء الثنائي الآخر تحت المجهر، مستعينين على الأرجح بصديق بري، وليد جنبلاط، وبجعجع (غريم باسيل) الذي تفرد بتحقيق أهم إنجاز في هذه الانتخابات، عبر مضاعفة عدد نوابه من ثمانية إلى ستة عشر مقعدا. وها هو أول الغيث قد بدأ بالكباش الذي انطلق بشأن تشكيل الحكومة الجديدة مع استباق برّي الجميع، معلنا تمسكه بوزارة المالية، باعتبارها جزءاً من "حصة الشيعة" في السلطة! فيما تمكّنت حركات المجتمع المدني من إيصال نائبين يتيمين، وهما سيدتان، إلى البرلمان.
وهكذا، فهذه هي اللعبة تدور مجدّدا حول السلطة، وإنما داخل أروقة الحكم، بعد أن أعطي اللبنانيون جرعة "مسكّنات ديموقراطية" من نوع "ممارسة حق الاختيار".
وكان السباق في هذا المضمار ما أصبح يطلق عليه "حزب العهد"، أي حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، فقد افتتح رئيسه ووزير الخارجية، جبران باسيل، حملاته الانتخابية بشد العصب الطائفي مصوبا سهامه على رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل (الشيعية) نبيه بري، متهما إياه بـ "البلطجي". وكان الرد اجتياح عناصر مسلحة من "أمل" على دراجات نارية محيط المركز الرئيسي للتيار العوني، والاشتباك مع عناصر من المركز، واضعين البلد وأمنه الهش على كف عفريت! غير أن مناصري عون هللوا واشتد عصبهم لما قاله رئيس حزبهم ضد برّي المخضرم، والجالس على كرسي رئاسة المجلس منذ 26 سنة،
وقد بنى باسيل استراتيجيته الانتخابية على الاستمرار في تحدّي بري في دوائر محافظة الجنوب، التي تعتبر "مربط خيل" رئيس حركة أمل، باعتبار أن أكثرية ناخبيها من الشيعة. ورد عليه رئيس المجلس مشبها إياه بالـ "برغوت" الذي يتحرّك كثيرا، وينتقل من هنا إلى هناك، من دون فعل مؤثر! لكن حركة باسيل كان لها بركة عند جمهور الدوائر المسيحية، إذ تمكّن من حصد مقاعد نيابية مكّنته أمس من الحصول على نحو 30 نائبا، وأن يصبح التكتل الأول في البرلمان. وهي خطة باسيل لحشد أكبر تأييد برلماني لعهد عون الرئاسي. كما أنها المرة الأولى التي يتقدّم فيها على كتلة رئيس الحكومة، سعد الحريري، منذ 2005، وهو الذي ناهزت كتلته الخمسة وثلاثين نائبا في دورة انتخابات 2009 في عز زخم فريق قوى 14 آذار السيادي. في حين يسجل في انتخابات أمس تراجعا لافتا في عدد نواب كتلته التي هبطت إلى 20 نائبا، مع اضمحلال تحالف قوى 14 آذار بفعل نشوء محور ثنائي جديد، يضم تياري الحريري وباسيل، أي طرفي الصفقة التي حملت عون إلى القصر الجمهوري، وأعادت الحريري إلى القصر الحكومي.
هذه الصفقة - التسوية التي يدور حولها الصراع بين اطراف السلطة اليوم، وترجمت خلال السنة ونصف السنة من عمرها صفقات دسمة في أكثر من قطاع، مثل الكهرباء والنفط والغاز والاتصالات، فقد حاول "الثنائي الحريري- الباسيلي" تقاسم المغانم بينهما، والاستفراد بصفقات الكهرباء والاتصالات، والتي تصنّف "بقرة حلوبا". فكان بري لهما بالمرصاد عبر الإمساك بوزارة المال التي يجب أن تمر عبرها كل الصفقات، فيما تصدّى حزب القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع داخل مجلس الوزراء مع زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، وآخرين لمنع تمرير مثل هذه الصفقات من خارج الأطر الحكومية والقانونية. وهذا ما أثر بدون شك على شعبية الحريري الذي يبدو أنه يعمل بمعادلة "لكم القرارات السياسية ولي الاقتصاد والمشاريع". وهذه الـ"لكم" تعني عون و"حزب الله"! وقد عبرت قاعدة الحريري (السنّية) عن هذا التململ بشكل جلي في صناديق الاقتراع، إذ رفضت في أكثر من دائرة إعطاء أصواتها للمرشحين العونيين على لوائح "المستقبل"، كما عبر آخرون عن نقمتهم بمقاطعة صناديق الاقتراع، ما أدى إلى تدني نسبة الناخبين بشكل ملحوظ مقارنة بالانتخابات 2009 في دائرة بيروت الثانية، ما نتج عنه تقدم مرشح حزب الله على الحريري في "عقر داره" في العاصمة ذات الأكثرية السنية بأكثر من ألفي صوت. وتمكنت لائحة "الثنائي الشيعي" متحالفةً مع الإسلاميين لأول مرة من حصد خمسة مقاعد من أصل إحدى عشر. وكذلك في طرابلس عاصمة الشمال، وثاني أكبر مدينة بأكثرية سنية، تمكن رئيس الحكومة الأسبق، نجيب ميقاتي، لأول مرة من حصد نصف المقاعد الثمانية المخصصة للمدينة، علما أنه كان يترشح على لائحة الحريري ليحصل على مقعد نيابي، لكن الحريري تجرّع الكأس، وأكد أنه مستمر في هذا الخط، وفي تحالفه مع باسيل. وقد أعادت هذه المعادلة التوتر إلى الشارع في اليوم الذي تلا الانتخابات.
غير أن "الثنائي الشيعي" لا يقف مكتوف الأيدي، على الرغم من دعم حزب الله التسوية -
وهكذا، فهذه هي اللعبة تدور مجدّدا حول السلطة، وإنما داخل أروقة الحكم، بعد أن أعطي اللبنانيون جرعة "مسكّنات ديموقراطية" من نوع "ممارسة حق الاختيار".