لم يعد هناك شك في أن أصحاب النفوذ في المنظومة الاقتصاديّة اللبنانيّة استعادوا زمام المبادرة، وباتوا في موقع يسمح لهم بالمناورة حفاظاً على مصالحهم، ولو على حساب الغالبيّة الساحقة من محدودي الدخل في البلاد.
طوى لبنان صفحة المقاربات الحكوميّة السابقة، التي حاولت تحديد حجم الفجوات الموجودة في ميزانيات المصارف والمصرف المركزي، بعد أن اندفعت جميع الكتل النيابيّة لإسقاط هذه المقاربات، في محاولة لحماية رساميل المصارف وتحييدها عن تحمّل أي جزء من تكاليف الانهيار.
وبذلك، انتقلت البلاد إلى مرحلة أخرى، عنوانها صياغة المعالجات بما يتلاءم مع مقاربات جمعيّة المصارف التي تمثّل مصالح المصارف التجاريّة، والمصرف المركزي الذي ينسجم في مقارباته ومصالحه مع المصارف التجاريّة. أما كلفة هذا النوع من المعالجات، فستكون حكماً على حساب قيمة الليرة والقدرة الشرائيّة للبنانيين.
آخر التطوّرات كان استدعاء الحكومة لشركة لازارد مجدداً، التي تمثّل الاستشاري المالي الخاص بالحكومة منذ أن أعلن لبنان امتناعه عن سداد سندات اليوروبوند في شهر مارس/ آذار الماضي.
ساهمت الشركة خلال الفترة الماضية مع استشاريي الحكومة في صياغة الخطة الحكوميّة السابقة، التي أُسقِطَت في المجلس النيابي.
واليوم، يبدو أن الحكومة سلّمت بنفوذ اللوبي المصرفي القوي في البلاد، وعادت إلى الشركة لتطلب تعديل الخطة بما يتلاءم مع مقاربات المصرف المركزي والمصارف التجاريّة.
وتعديل الخطّة بالتعاون مع المصرف المركزي، لن يعني سوى إعادة النظر في حجم الخسائر المقدّرة في ميزانيات القطاع المالي بأسره وتخفيضها، وهو ما سيعني تخفيض كلفة التصحيح التي سيتحمّلها القطاع ورساميله والمساهمون فيه.
وبدل معالجة هذه الخسائر جذريّاً، سيعني هذا التطوّر ترك مسألة التعامل مع الخسائر للمصرف المركزي، الذي يعالجها اليوم من خلال طبع العملة وسداد قيمة الودائع بالعملات الصعبة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما بات أحد العوامل المسببة لانهيار سعر الصرف وتدهور القدرة الشرائيّة للبنانيين.
فبحسب أرقام المصرف المركزي نفسه، ارتفعت الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة حتّى شهر يونيو/ حزيران الماضي إلى حدود 12.79 مليار دولار، مقارنةً بـ3.95 مليارات دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي. ببساطة، تضاعف حجم الكتلة النقديّة بنحو 3.2 مرات بين الفترتين، وهو ما أدى إلى تضاعف قيمة الدولار مقابل الليرة بأكثر من 5 مرات منذ حدوث الانهيار المالي العام الماضي.
في الواقع، ثمّة تطوّر آخر يصبّ أيضاً في اتجاه تسليم ملف المعالجات المتعلّقة بالقطاع المالي للمصرف المركزي والمصارف.
فخلال الأيام الماضية، أصدر حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة قراراً بإنشاء لجنة للإشراف على عمليّة إعادة هيكلة المصارف، وهي عمليّة كان يُفترض أن تجري في إطار خطّة الحكومة وبعد تقدير الخسائر الموجودة في القطاع المالي لمعالجتها.
بمعنى آخر، كان هذا القرار يعني سحب ملف إعادة الهيكلة من خطّة الحكومة، وإبعاده عن شبح تقدير الخسائر وتحميلها لأصحاب الرساميل في القطاع المصرفي، ووضعه في عهدة لجنة أكثر حرصاً على مصالح المصارف التجاريّة ورساميلها، وبما ينسجم مع رؤية المصرف المركزي للمعالجات المطلوبة.
اللافت للنظر هنا، أن لجنة إعادة الهيكلة تشكّلت عمليّاً من ممثلين عن المصرف المركزي وجمعية المصارف، ولجنة الرقابة على المصارف التي يتقاسم المصرف المركزي والمصارف النفوذ فيها.
بمعنى آخر، سيكون على جمعيّة المصارف والمصرف المركزي أن يحددا بنفسيهما حجم الخسائر المترتبة على ميزانيّاتهم والفجوات الموجودة فيها، وبالتالي سيحددان وحدهما قدر الخسائر وكلفة التصحيح التي سيتحملانها في سياق المعالجات التي ستُعتمَد عند إعادة الهيكلة.
في الواقع، كان يمكن تفهّم استقلاليّة المصرف المركزي في سياساته وإدارته لهذا النوع من المسائل، لولا أننا نتحدّث عن توزيع خسائر انهيار بات يضع البلاد على شفير كارثة معيشيّة واجتماعيّة غير مسبوقة، فيما يدفع جميع اللبنانيين اليوم ثمن مقاربات حاكم المصرف المركزي والمصارف من خلال أثرها على سعر الصرف والسيولة المتوافرة بالعملة الصعبة في البلاد.
استعادة أصحاب النفوذ المالي في البلاد لزمام المبادرة تتكرر في ملف التدقيق الجنائي لميزانيات المصرف المركزي. فما إن طُرح موضوع الاستعانة بشركة كرول لإجراء هذا التدقيق، حتّى بدأت المناورات الهادفة إلى إقصاء كرول عن ملف التدقيق هذا.
عمليّاً، كانت الخشية من كرول نابعة من تخصصها في أعمال التدقيق الجنائي، ومن إدراك الجميع أن الشركة لن توافق على التزام عقد مع لبنان يمكن أن ينطوي على أشكال معيّنة من التملّص من الطابع الجنائي للتدقيق، لأن ذلك سيشكّل مصدراً لمخاطر على سمعة الشركة.
قضت التسوية باللجوء إلى شركة ألفاريز آند مارسال، وهي شركة استشاريّة عالميّة، لكنّها غير متخصصة بموضوع التدقيق الجنائي حصراً، ولو أنّها تمارس هذه العمليات كجزء من مروحة واسعة من عمليات الاستشارة الاستثماريّة التي تقوم بها.
ببساطة، عنى هذا الأمر فتح باب للاتفاق مع الشركة على عقد يمكن أن يبعد التدقيق عن طابعه الجنائي، من خلال تحديد أهداف أخرى تدخل ضمن مجال الدراسات الاستثماريّة والتحقيقات التي تقوم بها الشركة عادةً.
مع العلم أن الحجة التي جرى اللجوء إليها لإقصاء كرول، كانت وجود إداريين إسرائيليين في عداد كادرها، فيما تبيّن لاحقاً أن هناك إداريين إسرائيليين أيضاً في عداد العاملين في الشركة التي اتُّفق على تلزيمها التدقيق الجنائي، وهو ما يؤكّد أن إقصاء كرول، رغم تخصصها في موضوع التدقيق الجنائي، لم يكن إلا خوفاً ممّا يمكن أن تكشفه في عمليات المصرف المركزي.
كل ما يجري يؤكّد أن ملف المعالجات ذاهب باتجاه حماية مصالح الفئات الأكثر نفوذاً في القطاع المالي والمنظومة الاقتصاديّة اللبنانيّة، فيما يبدو أن الحكومة قررت ببساطة التسليم بهذه الحقيقة، وتعديل خطتها لتلائم هذا الوضع الجديد.
أما أهم ما في الموضوع، فهو الكلفة المعيشيّة الباهظة التي ترتبها هذه الخيارات اليوم على جميع الشرائح الاجتماعيّة، وهي كلفة سيدفعها اللبنانيون بالنيابة عن صانعي المنظومة الماليّة والمستفيدين منها، الذين يرفضون اليوم أن يتحملوا أي جزء من هذه الخسائر.