لبنان.. عيد الاستقلال لاستبدال الطائفية بالمواطنة

22 نوفمبر 2014
+ الخط -

يحتفل لبنان اليوم السبت، 22 نوفمبر/تشرين الثاني، بعيد استقلاله الواحد والسبعين. لكن "إحياء عيد" لن يكون في محله. فالمناسبة، في الوقت الحاضر، يجب أن تكون فرصة للبدء بمراجعة نقدية صارمة، بهدف استرجاع، أو بالأحرى، توفير المناعة المطلوبة لمجابهة التحديات التي من شأنها أن تؤول، أولاً، إلى نبذ وإزالة الأسباب التي كاد نظامه الطائفي أن يجهض الكثير من إسهاماته السياسية. نعم السياسية والثقافية والحضارية التي ثبتت جدارتها، والتي أثرت عناصر التنوير والعطاء السخي في مختلف الميادين. إلا أن هذه الإسهامات والطاقات تبقى عاجزة عن إحداث الاختراق بسبب العامل الكابت، بل الخانق الذي يجهض إمكانات الإسهام في تعزيز وتصليب تماسك المجتمع المدني ومؤسساته التي كان يمكن للبنان أن يقدمها، كنموذج في المنطقة.

كيف يمكن للبنان أن يحتفل بعيد الاستقلال، في وقت يصعب العثور على أي شيء يمكن الاحتفال به. فجنودنا البواسل في قبضة إرهابيين، يحاولون ابتزاز الدولة، لإخراج مجرميهم من السجون اللبنانية. في الوقت نفسه، يتزايد الارتهان للخارج، في التوجهات والخيارات الخارجية والداخلية، خصوصاً بشأن انتخاب رئيس جمهورية. وهذا من شأنه توسيع التباعد، ورفع درع درجة التوتر على الساحة الداخلية، الهشة أساساً. ويعود ذلك، في جذوره، إلى طبيعة النظام الطائفي التي سلبت حق اللبنانيين في المواطنة التي لم يبق منها سوى بطاقة الهوية. فالطائفية أفرغت هذا الحق من مضمونه الوطني والسياسي، بحيث جرى تقزيمه إلى مجرد انتماء إلى طائفةٍ، وليس إلى وطنٍ، له دولته، بمرتكزاتها الدستورية والقانونية والمؤسساتية. فاللبناني، اليوم، ابن طائفة، بل ابن مذهبٍ، يعتبره مرجعيته وسنده. به يستقوي، وإليه يعود، إذا ما دقت طائفته النفير. وبذلك، صار لبنان مجرد إطار لتعددية الطوائف، وليس لتنوّع المواطنين في ظل المساواة في الحقوق والواجبات، بدلاً من التبعية لأمراء الطوائف. أصبح البلد مظلة لرعايا جماعات لا تلتقي إلا على تقاسم الحصص في السلطة. وضع جاهز ليس فقط للصدامات الدورية بين أطرافه، بل، أيضاً، للمزيد من التشظي والتفكيك. وفي هذا المقام، يجدر توجيه التحية إلى اللبنانيين الذين تجرأوا، وتخلوا عن ولاءاتهم الطائفية، مفضلين الانتساب إلى المواطنة التي لا سبيل سواها لإعادة بناء لبنان المجتمع المدني.

وتأتي هذه الذكرى وسط ظروفٍ غير مسبوقة، تعيشها المنطقة من العراق إلى ليبيا وسورية واليمن، وما أفرزته من انشقاقات وانهيارات، أطاحت سيادات وحدوداً، وشرعت الأبواب على انفلاتٍ لا حدود له، وبما يهدد ربما بإعادة رسم خريطة المنطقة، طالما صار الجهاديون يتحكمون بمصيرها، ويمعنون في تشطيرها. فقد انهارت ركائز المواطنة في تلك الساحات، لتحل مكانها ولاءات مطلقة، مشحونة بالعنف، وبالنزوع الجارف لإبادة الآخر، المختلف عنها ومعها. مسار لو طال أمده، لما ترك غير الخراب والدمار الكاملين. 

ولعلّ اللبنانيين في عيد استقلالهم هذا يتوقفون عند هذا المشهد الإقليمي، لأخذ العبر والدروس، وليدركوا أن الطائفية أفقدت الجسم اللبناني مناعته، وجعلته ورقة في مهب الاستقطابات التي فاقمت الخلافات الداخلية، وفرضت عليه معادلاتٍ، زادت من سرعة عطبه، بدلاً من أن يكون متسلحاً بحصانة الوطن ومناعة بيته الداخلي. آن الأوان للخروج من تعددية الطوائف إلى وطن التنوع. أو على الأقل البدء في وضع البلد على هذه الطريق. فما نشاهده، اليوم، من تعطيل للمؤسسات وتقزيم للدولة ودورها، بلغ حداً يهدد بنسفها، وبما يستدعي التأمل في التركيبة، وما آلت إليه من اهتراءٍ، لا يتعايش مع عناصر الاستنارة التي انتجها لبنان، والتي كانت، وربما ما زالت، مؤهلة لجعله النموذج المتميز في المنطقة، والقادر على أن يساهم في جعل العروبة مواطنة على كامل الساحة العربية.

بهذه الصورة، يصح الاحتفال الذي لا يستقيم إلا إذا تلازم مع العزم على تجاوز الطائفية التي تشكل أم العلل اللبنانية. فلا مدخل آخر أمام لبنان لاسترجاع فرادته ودوره في المنطقة. ولولوج هذه الطريق، لا بدّ من مواجهة مهام المرحلة الراهنة، وعلى رأسها وضع حد للتسيّب، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتحديد موعد لانتخابات نيابية، يتلوهما التحضير لصياغة دستور حديث، يكون سبيل العبور إلى مرحلة جديدة، بعد مغادرة اجترار الطائفية التي ثبت، بالبرهان والتجربة، أنها ليست فقط العائق الأكبر لتقدم لبنان، بل، أيضاً، الخطر المهدد لكيانه، وتفتيت نسيحه الاجتماعي. خلاصه منها لا يضمن فقط خروجه من النفق الموجود فيه، بل أيضاً يؤهله ليلعب دور المحفز في المنطقة. لقد سبق، وكاد أن يلعب هذا الدور، عندما كان في عزّ صعوده. وبالتالي، فالخميرة موجودة ليعود إلى مساهمته في نهضةٍ تحتاجها المنطقة، بعد خروجها من أزمتها الراهنة. فتجربته غنية في مختلف قطاعات المجتمع المدني، من نقابات وهيئات ومنظمات طلابية ونسائية وسياسية، وغيرها، يتم وضعها في تصرف الجيل الجديد لإخراجه من قوقعة الفئويات والمذهبيات المنغلقة على نفسها. إعادة تحديث هذه التجربة مرهونة بمكاشفة الذات، وتشخيص أعطابها، بعد هذه الرحلة المتعثرة التي فاقمتها الطائفية في الداخل، والاستقواء بالخارج والارتهان له. شرطان لضمان الرجوع عن حافة الهاوية، الواقف عندها لبنان اليوم.