لا توجد هنا راية بيضاء

28 اغسطس 2014

تظاهرة تضامنية مع غزة في لندن (26يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -


كأنَّ لا شيء يتغيّر في هذه المفازة الصحراوية الشاسعة، حيث لا يمرُّ التاريخ، وإن مرَّ (حدث هذا سريعاً ورأيناه رأي العين، أقسم بكلِّ غالٍ وعزيز!) لا يحتفظ الرمل بذكرى علقت، مصادفةً، في شجيرة غضا، فالرمل لا يحفظ ذكرى، ولا آثار عبور. حتى أمهر قصَّاصي الأثر يضلّون في هذا المتاهة من الوحشة الخام. فلا تاريخ للرمل. تاريخ الرمل هو الرمل الأبدي نفسه وهندسته الخادعة. عودوا إلى القصيدة العربية الكلاسيكية، لتعرفوا أن الوقوف على "الأطلال" و"المرابع" التي ابتلعها الرملُ، وأصبحت أثراً بعد عينٍ، لازمةٌ لا تكون القصيدةُ قصيدةً من دونها. ذلك هو قانون الطبيعة، وهو قانون الشعر بالتالي، ولم يبدأ التاريخ بالانكتاب، بمعناه الواسع، إلا بعد الخروج من الرمل.

***
وفيما غزة كانت تدمَّر، على خارطة مقسَّمة إلى مربعاتٍ صغيرةٍ موضوعةٍ أمام جنرالات أسباط إسرائيل، كان هناك في القبائل العربية المبعثرة من يتساءل عن الأسباب والعلل، عن الإقليمي والدولي، عن المتضرر والمستفيد، وعن رجحان كفّة على كفّة، من دون أن يحرك ساكناً على الأرض.

ثمة صدى جدل بيزنطيٍّ شاحبٍ ومحيّرٍ، يتردَّد في المضارب العربية عن هذه المبادرة وتلك. عن حلف مصر – السعودية. تركيا – قطر. وليس عن حلف أميركا – إسرائيل، والأخيرة وبضعة أنظمة عربية تحت الطاولة، في الوقت، نفسه، الوقت نفسه الذي تواصل فيه "داعش" نهشَ كبد سورية والعراق، إلى جانب البراميل المتفجّرة لنظامي البلدين.

هذه هي الذبذبات الوحيدة الملتقطة في أثيرٍ موبوء، ما عدا ذلك الصمت والانصراف إلى عيشٍ بائسٍ، هما ما يتراءى في الخارطة الممتدة من الماء إلى الماء، ومع ذلك تكاد أن تموت عطشاً!

***
انتهت حرب نتينياهو على غزة، بعد نحو خمسين يوماً من القتل والتدمير والاغتيال، من دون أن ترفع المدينة المنكوبة الراية البيضاء. أُثخنت بالجراح. تقوَّضت عمائرها. شُرِّد أكثر من نصف سكانها من القصف إلى القصف. رأينا عائلاتٍ بأكملها تباد. تنقرض. الأب والأم والأبناء والبنات يلقون حتفهم معاً. لا يبقى منهم من يُخبِّر. ولكن، على الرغم من كلّ هذه الأكلاف الهائلة، لم تركع. يقول قادة الحرب في إسرائيل إنّ "عملية الجرف المنهار" لم تكن للتركيع. ولا للترويع. ولا لرفع الراية البيضاء. ألا إنهم كاذبون. هذا ما يقولونه، الآن، بعدما لم يسجلوا، في دفاترهم السوداء، سوى آلاف القتلى والمصابين. لم يحصل قادة الحرب إلا على فضيحة عسكرية وإنسانية مدوّية. الجيش الذي لا يقهر لم يستطع قهر المقاومة، ولم يستعد قوة الردع التي فقدها في جنوب لبنان وغزة أكثر من مرة، وصار تشبيهه بجلاده النازي مقبولاً حتى من بعض اليهود. 

***
صمدت غزة في وجه العصف الإسرائيلي المدعوم من أميركا (وبعض العرب).  وصمدت المقاومة، على الرغم من الطائرات والصواريخ التي كانت تصل الليل بالنهار في قصفها "بنك الأهداف". هذا الصمود غيَّر أكثر من معادلة: تكريس شعور إسرائيل ومعرفتها أن عليها أن تحسب ألف حساب، عندما تقرر القيام بغزوة جديدة. أكد لنا، نحن العرب، أنَّ إسرائيل يمكن تركيعها، وشلّ حركتها، ببضعة صواريخ وقذائف. الأهم بإرادةٍ لفعل ذلك. هذا "الانكشاف الأمني" خطير جداً. لا تحتاج المقاومة في غزة (دع عنك الضفة الأقرب إلى مدن إسرائيل وتجمعاتها البشرية الكبرى)، إلا إلى بضعة صواريخ. هذا على صعيد الخيار العسكري. لكن، هناك خيارات شعبية أكثر فاعلية لجعل إسرائيل تجثو، فعلياً، على ركبتيها.. تذكروا الانتفاضة الأولى، والثانية نسبياً. الفلسطينيون، إذن، ليسوا بلا خيارات. إنَّ "أضعف" خيارات الفلسطينيين أقوى من الآلة الحربية الاسرائيلية.

الأهم في المعادلات التي غيَّرها العدوان على غزة هو ما يشبه الانقلاب في الرأي العام العالمي (الغربي) ضد إسرائيل. فلم تشهد عواصم الغرب الكبرى تظاهراتٍ ضخمةً ومتواصله، منذ التظاهرات المليونية المضادة للحرب على العراق، إلا في العدوان على غزة. هناك حركات سياسية تحيا بعد موات، وأخرى تنشأ ضد الحرب، والإمبريالية، من مشاهد الأطفال الفلسطينيين القتلى، البيوت المهدّمة، الرجال الذين فقدوا عائلاتهم. الطبيعة التي تم الاعتداء عليها، كما لو أنها جزء من المقاومة.

ولكن، وأسفاه، لم يحدث شيء يشبه هذا، حيث ينبغي أن يحدث: العواصم العربية. أولئك الذين خرجوا إلى شوارع العواصم العربية لنصرة غزة كانوا أقل، بما لا يقاس، من زحمة المتسوقين في وسط أية عاصمة عربية. أتحدَّث عن البلدان التي لم يشطبها استبدادها الداخلي من خارطة التفاعل حتى مع قضاياها هي. أما البلدان التي تغرق في بحرٍ من الدم والأشلاء والجثث مجهولة الهوية والسجون المترعة بالبشر (سورية، العراق، ليبيا) فتكفيها مصائبها.

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن