لا تزال الإجابة تونس

21 نوفمبر 2016
+ الخط -
كانت سبّاقةً في إشعال شرارة انتفاضات الشعوب العربية قبل ستة أعوام، وأبهرنا شعبها بالحفاظ على ثورته من الضياع، والنجاة من شِراك الثورة المضادة. وها هي تونس تبهرنا مُجدّداً بالمضي في واحدةٍ من أصعب مراحل الثورات، وإعادة بناء الدول، وهي "العدالة الانتقالية". فقد بدأت هيئة الحقيقة والكرامة مرحلة الجلسات العلنية ضمن إجراءات تحقيق "العدالة الانتقالية" وأعماله فيما شهدته البلاد من أحداث بين عامي 1955 و2013.
تشكلت الهيئة مطلع عام 2014 بقرار من المجلس الوطني التأسيسي الذي اختاره الشعب التونسي لوضع اللبنات الأساسية لدولةٍ جديدة. استناداً إلى تجارب شعوب أخرى، وبحسٍّ وطني نابه، أدرك التونسيون أن البناء الجديدة يتطلب بالضرورة تصفية الحسابات القديمة، سواء فيما بين مختلف القوى والفرقاء، أو بينهم وبين الشعب الذي عانى طويلاً على مدى تلك العقود الممتدة من خمسينيات القرن الماضي.
اقتناع التونسيين بالعدالة الانتقالية كان حقيقياً، وليس مجرد ادّعاء شكلي من الليبراليين، أو تزيداً من الثوريين، أو نفاقاً ظاهراً من الإسلاميين. تلك العقلية التي أخرجت تونس بأقل الخسائر من الصراع بين الإسلاميين والأزلام (الفلول)، وجعلت التمسك بالسلام الأهلي والاستقرار المجتمعي خطاً أحمر، فاستحقت "رباعيتها" جائزة نوبل للسلام. هي نفسها التي امتلكت من الحكمة والجرأة معاً ما يكفي لاستيفاء شرط أساس وجوهري لإغلاق الملفات القديمة بنجاح ومن دون رواسب، في عملية متكاملة اسمها "العدالة الانتقالية".
لم تشرع تونس فعلياً في إجراءات العدالة الانتقالية، إلا بعد دراسةٍ وافية وحوار مجتمعي ونخبوي واسع، لتخرج العملية في النهاية واقعية وعادلة، فقد استغرق الأمر نحو عامين، قبل أن تبدأ هيئة الحقيقة والكرامة أعمالها فعلياً. وخلال تلك الفترة، حرص التونسيون على استلهام التجارب السابقة، وتلافي ما واجهها من عقباتٍ وسلبيات، مع تطويعها بما يلائم الحالة التونسية. وكان للمجتمع المدني دور جوهري في قيادة هذه المرحلة التحضيرية، خصوصاً على صعيد المناقشات العامة والبحوث وورش العمل حول مختلف جوانب العدالة الانتقالية ومراحلها. ومن بين تجارب عديدة خضعت للدراسة والنقاش، كانت التجربة المغربية حاضرة بقوة، نظراً إلى وجود قواسم مشتركة كثيرة، جعلت من هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية موضع نظر الأوساط الحقوقية والمعنيين بالأمر في تونس.
في هذا النموذج التونسي كثير مما يجب الوقوف عنده طويلاً، والاستفادة منه. فمنظومة الحكم الجديدة في تونس عكست روحاً توافقية، ومزيجاً من جيل جديد ثوري مع عناصر من قوى قديمة تقليدية، ما ساعد على إفساح مجالٍ واسعٍ أمام منظمات المجتمع المدني، لقيادة التوجه نحو العدالة الانتقالية. على خلاف حالاتٍ أخرى، عاد الأمر فيها إلى الإطار الحكومي الذي تغلب عليه القوى البيروقراطية وشبكات المصالح القديمة، ما أفقده جدواه وفرّغه من مضمونه. أو حالات أخرى تسيطر فيها قوى راديكالية ثورية على الحكم، فتطبق إجراءات انتقاميةً تحت شعار العدالة الانتقالية.
ومنذ بدأت هيئة الحقيقة والكرامة مهمتها، لم يحدث أن اتُّخذت إجراءات، أو صدرت تشريعات تتعارض مع أعمالها، أو تستبق نتائجها. حيث اعتبرت الانتهاكات والممارسات التي جرت، خلال الفترة الزمنية المحددة، داخلة ضمن مهام عمل الهيئة. ومن ثم لا استبعاد لوقائع معينة، أو إخضاعها لقوانين خاصة أو استثنائية، بأي حجة. ما دامت تلك الوقائع تتعلق بانتهاكاتٍ ذات خلفية سياسية، أياً كانت هوية مرتكبيها أو ضحاياها أو مظهرها الذي قد يأخذ أحياناً طابعاً جنائياً، فيما هي جرائم سياسية بامتياز. بعد ست سنوات من مقتل محمد بوعزيزي الذي أشعل ناراً لم تنطفئ بعد في نظم الحكم العربية العتيقة، تظل تونس تقدّم إجابات شافية على أسئلةٍ كثيرةٍ، لا تزال مطروحة في أقطار عربية أخرى.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.