09 نوفمبر 2024
لا استدارة أردنية بل عودة إلى الأصل
دارت أحاديث، في الآونة الأخيرة، عن "استدارة" أردنية بخصوص الوضع السوري، باتجاه الضغط السياسي على النظام في دمشق، والرهان على رحيله. مناسبة الجدل هي زيارة الملك عبدالله الثاني، في غضون إبريل/ نيسان الجاري، إلى واشنطن، ولقاؤه بالرئيس دونالد ترامب ومسؤولين أميركيين، وما رافق الزيارة من حديثٍ أدلى به العاهل الأردني إلى صحيفة واشنطن بوست. في الحديث أمور كثيرة على جانب من الأهمية، منها قول الملك إنه فوجئ بمدى اهتمام الرئيس ترامب بالموضوع الفلسطيني الإسرائيلي. ومنها الإشارة إلى تفاهم وطيد أردني روسي على قاعدة محاربة الإرهاب، ومصالح البلدين، مع التركيز على أن اهتمام موسكو ينصب على جزيرة القرم التي تم ضمّها إلى روسيا في مارس/ آذار 2014. ومن الأمور الأخرى الواردة في الحديث التركيز على إيران ودورها في المنطقة العربية، ومنها أيضا التركيز على المشهد السوري.
في واقع الأمر، لم تتم استدارة أردنية جديدة، بل تمت العودة إلى مربع سابق، وقف فيه الأردن مع دول إقليمية وغربية ضمن ما عرف بـ"مجموعة أصدقاء سورية". ومع اقتراب المعارك السورية من الحدود مع الأردن، وتوقف سيطرة النظام على نقطة عبور درعا، فقد نشأت علاقاتٌ باتت معروفةً بين الأردن ومجموعات قتالية سورية في الجنوب السوري. ومع تسلل "داعش" قريبا من المنطقة الحدودية، ومع وقوع عملية الركبان في يونيو/ حزيران 2016... مع هذه التطورات، استشعر النظام في دمشق مدى حساسية الجانب الأردني، وتأهبه للتعامل مع المستجدات، فأوفد عددا من كبار مسؤوليه الأمنيين إلى الأردن في زياراتٍ غير معلنة لم تنفها عمان. شهدت تلك الفترة، من أواخر العام 2015 إلى أواخر العام التالي، ما يمكن تسميته بالفعل مراجعة أردنية، ولم يكن عامل إرهاب "داعش" والمجموعات التي
تبايعه هو العامل الوحيد في هذه المراجعة، بل لم يكن العامل الأهم مقارنةً بالتدخل الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي لم يلبث أن تحول إلى مشاركة روسية مباشرة في حملات جوية عسكرية ضد مجموعات المعارضة المسلحة. إنها الفترة التي كانت تنطلق فيها أحاديث رسمية، تفيد بأهمية هذا المستجد في موازين القوى، علما أن موسكو وعمّان ترتبطان بتعاون عسكري بينهما، وبعلاقاتٍ متينة تجمع زعيمي البلدين (الملك عبدالله والرئيس فلاديمير بوتين). وقد ساعد اضطراب الموقف الأميركي وشلله حيال الوضع السوري إبان عهد باراك أوباما، في تظهير مدى تأثير التدخل الروسي على عموم الوضع في سورية. ومن بين النتائج "العرضية" لذلك، تقدّم مليشيات تتبع إيران ليس بعيدا عن الحدود مع الأردن (70 كيلومترا كما حدّدها الملك) مستفيدة من إلقاء روسيا بثقلها إلى جانب قوات الأسد.
على أن الأمور لم تلبث أن تغيرت في واشنطن، مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض. كان العاهل الأردني هو أول زعيم عربي يستقبله الرئيس الأميركي الجديد في فبراير/ شباط الماضي، في إشارة لا تخفى إلى خصوصية العلاقات الأميركية الأردنية وأهميتها. وبدأت تصدر عن ترامب إشاراتٌ تفيد بأنه في سبيله إلى سد الثغرات التي خلّفها أوباما في التعامل مع الأزمة السورية، إلى أن جاءت مجزرة خان شيخون (وهي الثانية بهذا الحجم بعد مجزرة الغوطة الشرقية في أغسطس/ آب 2013) وما تلاها، الضربة الصاروخية الأميركية لمطار الشعيرات، ثم الفيتو الروسي في مجلس الأمن. في هذه الأجواء، جرت زيارة الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن، وصدرت تصريحاته، ومنها قوله: "المنطق يقتضي بأن شخصاً ارتبط بسفك دماء شعبه على الأرجح أن يخرج من المشهد"، مع الإشارة إلى أنه لا بد، في نهاية المطاف، من "نظام يقبله كامل الشعب السوري".
في هذا السياق، يعود الأردن إلى موقفه الأصلي الذي عبّر عنه في السنوات الثلاث الأولى للحراك السوري داعماً لتطلعات السوريين. وهي السنوات التي شهدت تدفق النازحين السوريين إلى الأردن، من دون أن يعبأ النظام في دمشق بمصيرهم، حيث تم دفعهم دفعاً للخروج، وكمن يتخلص من حمولة زائدة، وكان نصيب الأردن استقبال موجات متلاحقة من اللاجئين، وتوفير أماكن مؤقتة لهم، حتى بلغ عددهم نحو خُمس عدد السكان.
ولأن الأردن، مثل لبنان وتركيا، قد تأثر بصورة مباشرة بالأزمة السورية، من النواحي الأمنية والاقتصادية (توقف الصادرات عبر الأراضي السورية)، فمن حقه، كما من واجبه، السعي إلى رؤية نهاية لهذه الأزمة التي مسّت مساساً مباشرا بوضعه الداخلي. ومع الأخذ بعين الاعتبار مدى تناغم العلاقات الأميركية الأردنية، فإن الأردن، كما يُستشف من تصريحات الملك، بات يراهن على تأثير إيجابي ما في الموقف الروسي، يتحقّق عبر تفاهمات روسية أميركية مطلوبة، وكذلك عبر القنوات المفتوحة بين عمّان وموسكو، مع التشديد الأردني على ضرورة تفهم المصالح الروسية واحترامها.
ضمن هذه اللوحة، يزداد موقف الأردن حذراً من إيران، وتبتعد فرص بلوغ أي تقاربٍ مع
طهران. والرهان على كبح الجموح الإيراني لا يتوقف فقط على الضغوط الأميركية، بل كذلك، وإلى درجة ما على الكرملين "هناك محاولة لإيجاد تواصل جغرافي بين إيران والعراق وسورية وحزب الله في لبنان. لقد ناقشت ذلك مع الرئيس بوتين، وهو يدرك جيداً نوايا إيران الاستراتيجية بأن يكون لها نفوذ هناك". ومع تنويه الملك إلى أن الحرس الثوري على مبعدة 70 كيلومترا من الحدود، فإن الأمر يبلغ درجةً عالية من الحذر والتوجس من تمدّد النفوذ الإيراني.
ومع ارتسام مواقف دولة عربية جارة لسورية هي الأردن، على هذا النحو، بالرهان على تطلعات السوريين التي تستحق أن تلبى، فإن الوصول إلى هذه الغاية المشروعة، ما زالت تكتنفها عقبات جمّة، في مقدمها التدخل الروسي الذي ما زال يشارك بكثافة في العمليات القتالية إلى جانب قوات النظام، بما في ذلك استهداف مدنيين ومرافق مدنية، مع إدارة الظهر لداعش، واستقواء كل من ايران وروسيا ببعضهما من أجل تغيير المعادلات على الأرض، قبل الوصول إلى "مفاوضات حاسمة"، وهذا هو سر التمسك باجتماعات أستانة لإظهار كل من طهران وموسكو أنهما الطرفان المقرّران في الأزمة والحلول، إلى جانب الضعف الذي ما انفكّ يعتري الجسم السياسي للمعارضة السورية، وهو "الائتلاف"، في وقت تزداد فيه أهمية الهيئة العليا للتفاوض وديناميتها، وهي عوامل تجعل فرص الحل السياسي بعيدة، ما لم تتوقف موسكو عن التصاقها بالنظام، وعن تبني نهجه الاستئصالي، وعن تنسيقها الوثيق مع طهران، وكأن سورية أرضٌ بلا شعب.
في واقع الأمر، لم تتم استدارة أردنية جديدة، بل تمت العودة إلى مربع سابق، وقف فيه الأردن مع دول إقليمية وغربية ضمن ما عرف بـ"مجموعة أصدقاء سورية". ومع اقتراب المعارك السورية من الحدود مع الأردن، وتوقف سيطرة النظام على نقطة عبور درعا، فقد نشأت علاقاتٌ باتت معروفةً بين الأردن ومجموعات قتالية سورية في الجنوب السوري. ومع تسلل "داعش" قريبا من المنطقة الحدودية، ومع وقوع عملية الركبان في يونيو/ حزيران 2016... مع هذه التطورات، استشعر النظام في دمشق مدى حساسية الجانب الأردني، وتأهبه للتعامل مع المستجدات، فأوفد عددا من كبار مسؤوليه الأمنيين إلى الأردن في زياراتٍ غير معلنة لم تنفها عمان. شهدت تلك الفترة، من أواخر العام 2015 إلى أواخر العام التالي، ما يمكن تسميته بالفعل مراجعة أردنية، ولم يكن عامل إرهاب "داعش" والمجموعات التي
على أن الأمور لم تلبث أن تغيرت في واشنطن، مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض. كان العاهل الأردني هو أول زعيم عربي يستقبله الرئيس الأميركي الجديد في فبراير/ شباط الماضي، في إشارة لا تخفى إلى خصوصية العلاقات الأميركية الأردنية وأهميتها. وبدأت تصدر عن ترامب إشاراتٌ تفيد بأنه في سبيله إلى سد الثغرات التي خلّفها أوباما في التعامل مع الأزمة السورية، إلى أن جاءت مجزرة خان شيخون (وهي الثانية بهذا الحجم بعد مجزرة الغوطة الشرقية في أغسطس/ آب 2013) وما تلاها، الضربة الصاروخية الأميركية لمطار الشعيرات، ثم الفيتو الروسي في مجلس الأمن. في هذه الأجواء، جرت زيارة الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن، وصدرت تصريحاته، ومنها قوله: "المنطق يقتضي بأن شخصاً ارتبط بسفك دماء شعبه على الأرجح أن يخرج من المشهد"، مع الإشارة إلى أنه لا بد، في نهاية المطاف، من "نظام يقبله كامل الشعب السوري".
في هذا السياق، يعود الأردن إلى موقفه الأصلي الذي عبّر عنه في السنوات الثلاث الأولى للحراك السوري داعماً لتطلعات السوريين. وهي السنوات التي شهدت تدفق النازحين السوريين إلى الأردن، من دون أن يعبأ النظام في دمشق بمصيرهم، حيث تم دفعهم دفعاً للخروج، وكمن يتخلص من حمولة زائدة، وكان نصيب الأردن استقبال موجات متلاحقة من اللاجئين، وتوفير أماكن مؤقتة لهم، حتى بلغ عددهم نحو خُمس عدد السكان.
ولأن الأردن، مثل لبنان وتركيا، قد تأثر بصورة مباشرة بالأزمة السورية، من النواحي الأمنية والاقتصادية (توقف الصادرات عبر الأراضي السورية)، فمن حقه، كما من واجبه، السعي إلى رؤية نهاية لهذه الأزمة التي مسّت مساساً مباشرا بوضعه الداخلي. ومع الأخذ بعين الاعتبار مدى تناغم العلاقات الأميركية الأردنية، فإن الأردن، كما يُستشف من تصريحات الملك، بات يراهن على تأثير إيجابي ما في الموقف الروسي، يتحقّق عبر تفاهمات روسية أميركية مطلوبة، وكذلك عبر القنوات المفتوحة بين عمّان وموسكو، مع التشديد الأردني على ضرورة تفهم المصالح الروسية واحترامها.
ضمن هذه اللوحة، يزداد موقف الأردن حذراً من إيران، وتبتعد فرص بلوغ أي تقاربٍ مع
ومع ارتسام مواقف دولة عربية جارة لسورية هي الأردن، على هذا النحو، بالرهان على تطلعات السوريين التي تستحق أن تلبى، فإن الوصول إلى هذه الغاية المشروعة، ما زالت تكتنفها عقبات جمّة، في مقدمها التدخل الروسي الذي ما زال يشارك بكثافة في العمليات القتالية إلى جانب قوات النظام، بما في ذلك استهداف مدنيين ومرافق مدنية، مع إدارة الظهر لداعش، واستقواء كل من ايران وروسيا ببعضهما من أجل تغيير المعادلات على الأرض، قبل الوصول إلى "مفاوضات حاسمة"، وهذا هو سر التمسك باجتماعات أستانة لإظهار كل من طهران وموسكو أنهما الطرفان المقرّران في الأزمة والحلول، إلى جانب الضعف الذي ما انفكّ يعتري الجسم السياسي للمعارضة السورية، وهو "الائتلاف"، في وقت تزداد فيه أهمية الهيئة العليا للتفاوض وديناميتها، وهي عوامل تجعل فرص الحل السياسي بعيدة، ما لم تتوقف موسكو عن التصاقها بالنظام، وعن تبني نهجه الاستئصالي، وعن تنسيقها الوثيق مع طهران، وكأن سورية أرضٌ بلا شعب.