رحلة التغريبة الفلسطينية باتت معروفة حتى للغربي، والذي صار بين ظهرانيه عشرات آلاف الفلسطينيين، من أوبسالا في استوكهولم مروراً بالدنمارك، والتي يعيش فيها أكثر من 30 ألفاً منهم، إلى ألمانيا التي شهدت قدومهم بعد تدمير مخيم تل الزعتر في 1976.
التواجد الفلسطيني بعشرات الآلاف، بينهم قلّة من المهاجرين في ستينيات القرن الماضي، فتح أفقاً آخر أمام فلسطينيي دول الشمال. لم يكن سهلاً أن تكون فلسطينيا قبل 30 سنة في دول كالدنمارك والنرويج تحديداً، تغلغل فيهما لوبي صهيوني كان يقدم رواية أخرى عن "الإرهابيين" الذين تهجّروا من لبنان في أوج حرب المخيمات في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
ثلاثة عقود مرت، ومعها تغيرت وتبدلت مواقف في تلك المجتمعات. بل وحتى الفلسطيني من الجيل الجديد تغير عمن سبقه في استخدام أدوات نضال آخر وبطرق تفكير مختلفة.
أحفاد وأبناء المنكوبين صاروا كباراً وأجداداً في الغربة، لكنك قلما تجد فلسطينياً/ فلسطينية لا يتمسك بفلسطينيته وثقافته رغم ما أخذ من المجتمعات التي أقام وولد فيها. هؤلاء الأحفاد ساهموا منذ الانتفاضة الأولى بتغيير الصورة النمطية في مجتمعات غربية محافظة ومنغلقة، لم يعد هابطاً من السماء ككائن بلا تاريخ ولا ثقافة.
مجرد تواجد هؤلاء في المجتمعات الغربية يعيد التذكير بالنكبة، وينسف مع ذلك الكذبة الكبرى: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". تنظيرات صهيونية كثيرة واجهها جيل الغربة، ومنها كذبة حملها ويا للأسف بعض العرب عن "بيع الأرض". ثمة سؤال أرّق الفلسطيني في غربته: "إذا كنا قد بعنا فلسطين، فلماذا عشنا ذلك البؤس تحت الصفيح في مخيمات الذل والعار العربية؟".
انتهى بعد ثلاثة عقود كل ذلك النقاش وسقطت كل الأكاذيب بوجه فلسطيني آخر، أخذ من غربته فرصة لأن تكون الصورة على ما هي عليه: نعم لاجئون ومنكوبون.. لكننا فلسطينيون.
كثيرون يرون التغريبة الثانية بما جرى لفلسطينيي سورية، وقد زاد عددهم في أوروبا نتيجة ما حل بمخيماتهم، ورغم ذلك لا يمكنك أن تجد مناسبة إلا ويكون هؤلاء الجدد مشاركين فيها أيضاً.
قلما تجد في سنوات غربة الجيل الفلسطيني في دول الشمال مناسبة تمر بدون ذاكرة، من ذكرى النكبة نفسها إلى ذكرى يوم الأرض. عروض ثقافية ونقاشات وحوارات مع محيط غربي غيرت الواقع، رغم خيبات ما بعد "أوسلو" والانقسامات وضعف التمثيل المؤسساتي، بقيت هذه الأجيال ترى بوصلتها في الاتجاه الصحيح.
كثيرون يسافرون من بلاد إسكندنافية نحو فلسطين، كنشطاء ومتضامنين أجانب، منهم من يصل ومنهم من يعيده الاحتلال ويراجعه حتى في كتاباته على "فيسبوك"، وتلك حالات كثيرة تحدث "العربي الجديد" معها، كان آخرها قبل شهر في ماراثون فلسطين.
بكل الأحوال، تبقى أجيال الغربة، من صلب المنكوبين، أكثر تصميماً على الحق التاريخي الوطني لهم بالعودة، هم ورثوا ذلك الحق ويورثونه حتى لأطفالهم الصغار. في تلك المجتمعات الغربية بات للفلسطينيين، رغم كل المحاولات الصهيونية عبر اللوبيات لتشويه الصورة، أصدقاء كثر. وإن كانت الصورة تحتاج لكثير من التقويم، خاصة لما يقوله هؤلاء عن مؤسسات التمثيل الفلسطيني، وتجهد بعض الأطراف إلى تحويلهم لمجرد "مغتربين" وليسوا أصحاب حق العودة.
يبقى الشعار الصهيوني: "كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون" أكثر الشعارات التي انهارت وأهال عليها هذا الجيل الفلسطيني تراب التاريخ وهو متمسك بفلسطينيته ولو في أقصى شمال الكرة الأرضية.