24 سبتمبر 2020
كوريا الشمالية وصواريخها العجيبة
كوريا الشمالية، أو جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، الدولة التى تحتل الجزء الشمالى من شبه الجزيرة الكورية في الشرق الآسيوي، والتي كانت، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مجرد مستعمرة يابانية فى إطار شبه الجزيرة. ومع انتهاء الحرب، جرى تقسيم شبه الجزيرة إلى شمال شيوعي تابع للاتحاد السوفييتي السابق، وجنوب رأسمالي تابع للولايات المتحدة الأميركية. اندلعت الحرب بين شطري الجزيرة في العام 1950، عندما غزت كوريا الشمالية، بدعم سوفييتي، كوريا الجنوبية بهدف إعادة توحيد شبه الجزيرة تحت سيطرتها، وتدخلت أميركا لدعم كوريا الجنوبية بقوة، واستمرت الحرب الكورية قرابة الثلاث سنوات، وراح ضحيتها ما يقرب من مليونين من العسكريين والمدنيين، وانتهت بالعودة إلى خط التقسيم السابق في إطار اتفاق هدنة العام 1953.
تبلغ مساحة كوريا الشمالية قرابة 125 ألف كلم مربع، ويتجاوز عدد مواطنيها 25 مليون مواطن، والتي تتبنى سياسة الاكتفاء الذاتي أو الاعتماد على النفس. كوريا الشمالية هذه، وعلى مدى نحو ربع قرن، أصبحت تسبب إزعاجاً لجارتيها الأكثر قوة وتطوراً، وهما كوريا الجنوبية واليابان، وصداعاً مستمراً للحليف الأكبر لهما، وهي الولايات المتحدة الأميركية، ولا يقتصر سبب ذلك الصداع على إزعاج كل من كوريا الجنوبية واليابان، بل يمتد إلى تأثير كوريا الشمالية وعلاقاتها خارج نطاقها الإقليمي، خصوصا في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لأميركا، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، وذلك من خلال ما حققته كوريا الشمالية من تقدم نسبي في مجال إنتاج الصواريخ الباليستية ذات المديات المتعددة، وسعيها إلى تطوير منظومة متكاملة من السلاح النووي، بالإضافة إلى تطوير أسلحة تقليدية عديدة، وبيعها، ونقل التكنولوجيا الخاصة بها إلى تلك الدول.
في البداية، وفي ظل إدارة جورج بوش الابن والمحافظين الجدد في أميركا، تم توصيف كوريا الشمالية دولة مارقة، وجزءا من محور الشر، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية وسياسية،
دعمتها بمجموعة من العقوبات الدولية، عبر مجلس الأمن، ومع دعم روسيا والصين كوريا الشمالية، تمكّنت من الصمود أمام تلك العقوبات، بل استمرت في تطوير منظومة الصواريخ، ونقل تقنياتها إلى دول "مارقة" أخرى، خصوصا إيران، كما استمرت في تطوير برنامجها النووي. حاولت أميركا تطوير استراتيجيتها تجاه كوريا الشمالية، في ظل إدارة باراك أوباما، فيما عُرف بإستراتيجية "الصبر الإستراتيجي" عبر الاتصال، والحوار، وتشكيل مجموعة من الدول المعنية مباشرة بمنطقة شرق آسيا وشبه الجزيرة الكورية، تضم كوريا الجنوبية، واليابان، والصين، وروسيا، وبطبيعة الحال كوريا الشمالية. هدأت الأمور نسبياً، لكن هذا لم يثن كوريا الشمالية عن توجهاتها في تطوير منظوماتها الصاروخية، وبرامجها النووية. وجدير بالذكر أن أميركا، في إطار تلك الإستراتيجية وفي ظل إدارة أوباما، أدارت ما يُعرف بمفاوضات 5+1 مع إيران بشأن برنامجها النووي، وانتهت بالتوصل إلى الاتفاق المعروف.
حدث التطور الرئيسي في الموقف الأميركي تجاه كوريا الشمالية، مع عودة الجمهوريين إلى سدة الحكم، ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2017، حيث أصبح واضحاً أن الإدارة الجديدة تخلت تماماً عن "الصبر الإستراتيجي" تجاه الدول التي أعادت تصنيفها دولا مارقة، وفي مقدمتها كوريا الشمالية التي أكدت أنها لن تتهاون في التعامل معها، وكل الخيارات مطروحة في هذا الإطار، بما في ذلك الخيار العسكري. وجدير بالذكر أيضا أن ترامب يعتبر أن الاتفاق النووي مع إيران كان خطأً، ولابد من مراجعته، بدعوى أن إيران لا تزال دولة مارقة.
على الجانب الآخر، أعلنت كوريا الشمالية أن تهديدات ترامب لا تعنيها، وأنها ماضية في إجراء تجاربها الصاروخية. وبالفعل، قامت بإطلاق ناجح لصاروخ باليستي، عبر الأجواء اليابانية على ارتفاعات شاهقة، وسقط في بحر اليابان، ثم أتبعت ذلك بتجربة تفجير نووي لقنبلة هيدروجينية، تسبب في زلزال بقوة تجاوزت 4 درجات ريختر، وأعقبت تلك التجربة عملية إطلاق ناجحة لصاروخ باليستي آخر. ومرة أخرى أعلنت بيونغ يانغ أنها قادرة على تهديد ليس فقط جارتها كوريا الجنوبية واليابان والقواعد الأميركية في الجزر القريبة لكنها قادرة على الوصول إلى قلب أميركا نفسها، وأنها ستستمر في استكمال منظومتها النووية.
بطبيعة الحال، كان رد فعل اليابان وكوريا الجنوبية القلق الشديد، ومعهما دول أوروبا، لكن رد الفعل الأكثر عصبية جاء من أميركا، فعلى الرغم من انعقاد مجلس الأمن وقراراته باستمرار فرض العقوبات على كوريا الشمالية، في أعقاب تجربتها الصاروخية لم يتوقف ترامب عن تصريحاته النارية وتهديداته ضد كوريا الشمالية، والتي بلغت ذروتها في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا، عندما هدد صراحة بتدمير كوريا الشمالية تدميراً شاملا، وأطلق على رئيسها كيم جونغ أون "رجل الصواريخ". وكان رد كوريا الشمالية على الوتيرة نفسها، حيث وصف رئيسها ترامب بأنه "عجوز مجنون"، كما رفض وزير خارجيتها في كلمة بلاده أمام الجمعية العامة التهديدات الأميركية، ورد بتهديدات مماثلة.
هكذا بدا الأمر عبثياً، فليس منطقيا، ولا حقيقيا، أن أميركا، بكل قوتها، وقدراتها اللا محدودة،
وهي لازالت على قمة العالم، تخشى من تهديدات دولة صغيرة، هي كوريا الشمالية التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة، وتدني مستوى المعيشة، حتى لو كانت قادرة على تطوير بعض منظومات الصواريخ، اعتماداً على تكنولوجيا صينية وروسية منقولة، أو السعي إلى تطوير مشروع نووي سبقتها إليه دول عديدة، وحتى لو كانت قادرةً على تهديد كوريا الجنوبية، فإنها تُدرك تماماً أنها غير قادرة على استيعاب الضربة الثانية، والتي حتما ستكون مدمرة لها "تدميراً شاملاً"، على حد تعبير ترامب في تهديده.
يبقى السؤال: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تتخذ أميركا تلك المواقف الحادة تجاه كوريا الشمالية، وجديدها قرار رئاسي بمنع مواطني هذا البلد من دخول الولايات المتحدة؟ في محاولة للإجابة على ذلك السؤال، يحضرني مثل شعبي دارج "اضرب المربوط يخاف السايب"، ففي ظل حالة السيولة الشديدة التي يشهدها النظام العالمي، وحالة الفوضى التي كانت أميركا ترجوها خلاقة، فجاءت مدمرة، فإن ترك دولةٍ، مثل كوريا الشمالية، في حالة التمرد الحاد على النظام العالمي، والقواعد التي تحكم العلاقات الدولية، ودور كل قوة ومكانها، كبيرة أو صغيرة، وخصوصا فيما يتعلق بمجال شديد الخطورة، هو الأسلحة الصاروخية بمختلف أنواعها، والتي تنتشر بشكل واسع، ليس فقط على مستوى الدول الصغيرة، بل أيضا على مستوى بعض اللاعبين من غير الدول (الحركات والمنظمات شبه العسكرية)، وزيادة طموح تلك الدول في امتلاك أسلحة ومشروعات نووية. وأكثر من ذلك، تدفع حالة السيولة في النظام العالمي جماعات عرقية إلى السعي نحو الانفصال، وإنشاء كيانات دولية مستقلة وجديدة، كما هو الحال في كردستان العراق الذي أجرى استفتاء شعبيا حول الاستقلال، وإقليم كتالونيا في إسبانيا الذي يسعى إلى ذلك، وغير ذلك من الأقاليم، وهو ما يمكن أن يترتب عليه مزيد من حالات الفوضى والاقتتال.
ذلك كله مؤشر حاد على بداية تهاوي هيبة الولايات المتحدة الأميركية ومكانتها، باعتبارها القوة الأعظم، والقطب الأوحد في نظام عالمي غير مستقر، وهو ما يدفع أميركا إلى اتخاذ تلك المواقف المتشنجة تجاه صواريخ كوريا الشمالية العجيبة،
في محاولة لتأكيد تلك المكانة التي اهتزت بشدة نتيجة سياسات واستراتيجيات، أقل ما توصف به أنها كانت خرقاء.
تبلغ مساحة كوريا الشمالية قرابة 125 ألف كلم مربع، ويتجاوز عدد مواطنيها 25 مليون مواطن، والتي تتبنى سياسة الاكتفاء الذاتي أو الاعتماد على النفس. كوريا الشمالية هذه، وعلى مدى نحو ربع قرن، أصبحت تسبب إزعاجاً لجارتيها الأكثر قوة وتطوراً، وهما كوريا الجنوبية واليابان، وصداعاً مستمراً للحليف الأكبر لهما، وهي الولايات المتحدة الأميركية، ولا يقتصر سبب ذلك الصداع على إزعاج كل من كوريا الجنوبية واليابان، بل يمتد إلى تأثير كوريا الشمالية وعلاقاتها خارج نطاقها الإقليمي، خصوصا في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لأميركا، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، وذلك من خلال ما حققته كوريا الشمالية من تقدم نسبي في مجال إنتاج الصواريخ الباليستية ذات المديات المتعددة، وسعيها إلى تطوير منظومة متكاملة من السلاح النووي، بالإضافة إلى تطوير أسلحة تقليدية عديدة، وبيعها، ونقل التكنولوجيا الخاصة بها إلى تلك الدول.
في البداية، وفي ظل إدارة جورج بوش الابن والمحافظين الجدد في أميركا، تم توصيف كوريا الشمالية دولة مارقة، وجزءا من محور الشر، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية وسياسية،
حدث التطور الرئيسي في الموقف الأميركي تجاه كوريا الشمالية، مع عودة الجمهوريين إلى سدة الحكم، ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2017، حيث أصبح واضحاً أن الإدارة الجديدة تخلت تماماً عن "الصبر الإستراتيجي" تجاه الدول التي أعادت تصنيفها دولا مارقة، وفي مقدمتها كوريا الشمالية التي أكدت أنها لن تتهاون في التعامل معها، وكل الخيارات مطروحة في هذا الإطار، بما في ذلك الخيار العسكري. وجدير بالذكر أيضا أن ترامب يعتبر أن الاتفاق النووي مع إيران كان خطأً، ولابد من مراجعته، بدعوى أن إيران لا تزال دولة مارقة.
على الجانب الآخر، أعلنت كوريا الشمالية أن تهديدات ترامب لا تعنيها، وأنها ماضية في إجراء تجاربها الصاروخية. وبالفعل، قامت بإطلاق ناجح لصاروخ باليستي، عبر الأجواء اليابانية على ارتفاعات شاهقة، وسقط في بحر اليابان، ثم أتبعت ذلك بتجربة تفجير نووي لقنبلة هيدروجينية، تسبب في زلزال بقوة تجاوزت 4 درجات ريختر، وأعقبت تلك التجربة عملية إطلاق ناجحة لصاروخ باليستي آخر. ومرة أخرى أعلنت بيونغ يانغ أنها قادرة على تهديد ليس فقط جارتها كوريا الجنوبية واليابان والقواعد الأميركية في الجزر القريبة لكنها قادرة على الوصول إلى قلب أميركا نفسها، وأنها ستستمر في استكمال منظومتها النووية.
بطبيعة الحال، كان رد فعل اليابان وكوريا الجنوبية القلق الشديد، ومعهما دول أوروبا، لكن رد الفعل الأكثر عصبية جاء من أميركا، فعلى الرغم من انعقاد مجلس الأمن وقراراته باستمرار فرض العقوبات على كوريا الشمالية، في أعقاب تجربتها الصاروخية لم يتوقف ترامب عن تصريحاته النارية وتهديداته ضد كوريا الشمالية، والتي بلغت ذروتها في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا، عندما هدد صراحة بتدمير كوريا الشمالية تدميراً شاملا، وأطلق على رئيسها كيم جونغ أون "رجل الصواريخ". وكان رد كوريا الشمالية على الوتيرة نفسها، حيث وصف رئيسها ترامب بأنه "عجوز مجنون"، كما رفض وزير خارجيتها في كلمة بلاده أمام الجمعية العامة التهديدات الأميركية، ورد بتهديدات مماثلة.
هكذا بدا الأمر عبثياً، فليس منطقيا، ولا حقيقيا، أن أميركا، بكل قوتها، وقدراتها اللا محدودة،
يبقى السؤال: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تتخذ أميركا تلك المواقف الحادة تجاه كوريا الشمالية، وجديدها قرار رئاسي بمنع مواطني هذا البلد من دخول الولايات المتحدة؟ في محاولة للإجابة على ذلك السؤال، يحضرني مثل شعبي دارج "اضرب المربوط يخاف السايب"، ففي ظل حالة السيولة الشديدة التي يشهدها النظام العالمي، وحالة الفوضى التي كانت أميركا ترجوها خلاقة، فجاءت مدمرة، فإن ترك دولةٍ، مثل كوريا الشمالية، في حالة التمرد الحاد على النظام العالمي، والقواعد التي تحكم العلاقات الدولية، ودور كل قوة ومكانها، كبيرة أو صغيرة، وخصوصا فيما يتعلق بمجال شديد الخطورة، هو الأسلحة الصاروخية بمختلف أنواعها، والتي تنتشر بشكل واسع، ليس فقط على مستوى الدول الصغيرة، بل أيضا على مستوى بعض اللاعبين من غير الدول (الحركات والمنظمات شبه العسكرية)، وزيادة طموح تلك الدول في امتلاك أسلحة ومشروعات نووية. وأكثر من ذلك، تدفع حالة السيولة في النظام العالمي جماعات عرقية إلى السعي نحو الانفصال، وإنشاء كيانات دولية مستقلة وجديدة، كما هو الحال في كردستان العراق الذي أجرى استفتاء شعبيا حول الاستقلال، وإقليم كتالونيا في إسبانيا الذي يسعى إلى ذلك، وغير ذلك من الأقاليم، وهو ما يمكن أن يترتب عليه مزيد من حالات الفوضى والاقتتال.
ذلك كله مؤشر حاد على بداية تهاوي هيبة الولايات المتحدة الأميركية ومكانتها، باعتبارها القوة الأعظم، والقطب الأوحد في نظام عالمي غير مستقر، وهو ما يدفع أميركا إلى اتخاذ تلك المواقف المتشنجة تجاه صواريخ كوريا الشمالية العجيبة،
في محاولة لتأكيد تلك المكانة التي اهتزت بشدة نتيجة سياسات واستراتيجيات، أقل ما توصف به أنها كانت خرقاء.