كورونا في سورية

07 مارس 2020
+ الخط -
كورونا، الوحش المتغول في حياة البشرية، يثير الرعب والهلع، وتستنفر لمواجهته الحكومات، وتسارع في إقامة غرف عملياتها الخاصة، من أجل وضع الخطط والتكتيكات اللازمة لضمان لجمه عن التفشي، واستباحة الحياة مهدّدًا، من دون أن يقصد، بتعطيل النشاط البشري في كل مجالاته، وضرب الاقتصاد العالمي، فهو بارع في إيقاع الخسارات، وها هو الاقتصاد العالمي يتهاوى هنا وهناك، فكثير كثير من أوجه النشاط والشركات والمؤسسات طاولها التعطيل، وخسرت وتخسر كل يوم جزءًا من أرباحها أمام جبروت "فيروسٍ" لا يمكن تصنيفه كائنا حيا، لكنه إذا ما تسلل إلى الجسم الحي اكتسب حياةً، ويعرف كيف يستغل خلاياه ويسخّرها من أجل تعدّده وتكاثره المريع. 
لا أحد في سورية يعرف شيئًا عن واقع كورونا، فسورية منذ تسع سنوات خارج التغطية، وخارج التصنيف، وشعبها خارج حظوظ الحياة. لو تابعنا النشرات التي ترصد خط سير كورونا وتلاحقه كلص يجيد التخفي والتسلل من أكثر الزوايا اطمئنانًا وأمنًا، كأن يصح القول بمن يسطو على حياتهم إن من مأمنه يؤتى الحذر، فإننا سوف نجد أن اسم سورية سقط من هذه النشرات والجداول والخطوط البيانية، ولا أحد يأتي على ذكرها، مع أنها مرشّحة كثيرًا لاستشراء أوبئةٍ كثيرة، وأن كورونا الناشط جدًا في إيران من الطبيعي أن يكون قد وصل إليها.
لكن في سورية موتا رخيصا منذ تسع سنوات، تطلقه حربٌ شرسة، تضافرت فيها قوى الجشع 
والطمع في العالم، لتأمين مصالحها، متذرّعة مرة بمحاربة الإرهاب، ومرّة بنصرة الشعب السوري في نضاله من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأخرى ضد المؤامرة الكونية، وغيرها من أجل إقامة دولة الشريعة التي ترى في الإسلام حلاً لكل معضلات التاريخ ومشكلات البشرية، وغيرها الكثير. منذ البداية، لعبت في سورية الدول الإقليمية، الساعية إلى بسط نفوذها وترسيخ موطئ قدم إقليمي لها، على الوتر الطائفي، فعزّزت لنفسها بيئة حاضنة، لتلقف خطابها والسير خلفها، وهي تسعى فقط إلى تأمين مصالحها ومطامعها في المنطقة، حتى لو كان الثمن خراب وطن وتهجير شعبه وتشريد هذا الشعب، وقتلًا لا يفرق بين مدني وحامل سلاح، بين كبير وصغير، بين نساء ورجال، بين أصحاء ومقعدين. النتيجة أن ضحايا الشعب السوري فاق عددهم المليون من كل الشرائح، بين قتيل نتيجة المعارك أو معتقل أو مخفيّ قسرا وميت تحت التعذيب، والمهجّرون من بيوتهم ومدنهم وماضيهم يفوق عددهم نصف الشعب بين نازح ولاجئ. في سورية انتهاكات لحياة البشر ولحقوق الإنسان من كل الأطراف، فالنظام وحلفاؤه انتهكوا، وقوات التحالف المدعومة من أميركا انتهكت، وتركيا والفصائل المدعومة منها انتهكت، وتنظيم الدولة الإسلامية انتهك، فيها اعتداء على المدنيين بشتى أنواع الأسلحة من كل الجهات، وإنْ بنسب متفاوتة، فيها احتلال عسكري سافر ومقنّع تمارس فيه الجيوش أو الفصائل بالنيابة عنها كل أشكال العدوان.
في سورية أزمة نزوح ولجوء وأزمات معيشية متفاقمة باستمرار، حتى إن غالبية الشعب السوري صارت قريبة من خط الفقر أو تحته. في سورية حتى الحقوق الفردية منتهكة منذ عقود، وتفاقم الاعتداء عليها خلال السنوات التسع الماضية. في سورية مأساة إنسانية فظيعة، تكبر وتتضخم بطريقة ورمية، فتأتي على ما تبقى من حياة أمام عيون العالم، وموجة الهجرة أخيرا باتجاه أوروبا نموذج بالغ الدلالة على ضمير عالمي، يعيش حالة سبات، إن لم يكن ميتًا، موجة هجرة ونزوح في ظروف مناخية قاسية، يساوم فيها أطراف النزاع، ويستخدمونهم ورقة ضغط من أجل تحقيق مصالح ومكاسب، إن هي إلاّ اتّجار رخيص بالبشر. منذ بداية الحرب في سورية، لم يتفق العالم على حلّ لهذه الكارثة الإنسانية، ولن يتفق، مادامت المصالح الكبرى هي التي تدير الحروب والأزمات. سعت الدول الكبرى والهيئات الدولية إلى إرسال المساعدات الإنسانية التي كانت بازارًا للفائدة والثراء على حساب حصص سد الرمق لمئات الآلاف العالقة في فضاء منعزل، مستقطع من الجغرافيا والتاريخ، معتبرة أنها قامت بدورها النبيل، في وقتٍ صارت فيه سورية سوقًا للأسلحة القديمة والحديثة والمستحدثة، وميدانًا أو مختبرًا لتجريب السلاح، وصارت مشروع الأحلام المستقبلي للشركات الطامحة في إعادة إعمارها، والكلفة الباهظة التي تتطلبها إعادة الإعمار والأرباح المتوخاة منها سيدفعها الشعب الباقي على قيد الحياة مكرهًا، مثلما دفع ويدفع فاتورة إدارة الحرب الحالية أيضًا.
كورونا يخيف العالم، ويتصدّر نشرات الأخبار، ويدفع البشرية إلى متابعة وترقب الأسواق المالية وحركة الأموال والاستثمارات والأرباح والخسارات، وإحصاء عدد الضحايا منه كل صباح، 
ونشر الرقم الجديد، بينما يموت الناس في سورية من دون خسارات لشركات السلاح، وتلك التي تمدّ الحياة بأسباب بقائها في أوقات الحروب والأزمات. الحرب في سورية مربحة، حتى لو كان عدد الضحايا بمئات الآلاف، أو لو فاق المليون، يعني أكثر من مائة ألف ضحية في العام الواحد، إذا أخذنا المتوسط الحسابي معيارًا. ومع هذا، لم يتأثر الاقتصاد العالمي، ولم تتأثر أسواق المال، ولم تفلس شركات، ولم ينهر اقتصاد سوى اقتصاد الشعب السوري، فلماذا تكون سورية في بال إحصاء كورونا؟ ما يهم العالم اليوم المبارزة بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين، وبين أردوغان وقادة أوروبا في أكبر مأساة إنسانية، تتركّز بشكل سافر ورخيص على الحدود اليونانية التركية. الآلاف على الأرض، يتعرّضون لانتهاك كرامتهم وحياتهم على مرأى من العالم، ولا أحد يسعى إلى حل مشكلتهم، لأنهم صاروا عنوانًا لعملية ابتزاز رخيصة، كل طرفٍ يلوح فيها بأوراق قوته، تركيا تسهّل وصولهم إلى الحدود. واليوم، بحسب مراسل "فرانس 24"، تحاول شرطتها إقناعهم بالذهاب إلى المعابر المائية، حيث سمسرة التهريب ومخاطر عبور المياه، والشرطة اليونانية تلاقيهم بكل أشكال العنف المتاحة لديها، لمنعهم من عبور المعابر الحدودية. والحرب تحصد ما تحصد بتسارع كبير، لصنع وقائع على الأرض، تكون بمثابة أوراق قوة إضافية. صفقة رخيصة بمعايير القيم والأخلاق. ولكن منذ متى يأبه هذا العالم المحكوم بقوى المال والاحتكارات والمطامع بالقيم والأخلاق؟ لو كان كذلك ما ترك الشعب السوري بمفرده يواجه آلة حربٍ هي الأشرس في عصرنا الحالي، لو كان العالم فعلاً أو أنظمته الجبارة تريد الخير للبشرية، وتدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتدافع أيضًا عن قيم الديمقراطية، كما تدّعي، لما وصل الشعب السوري إلى هذه الحمأة الحارقة من أرض الجحيم الدنيوي. الكل أراد ويريد الاستثمار وكلهم كاذبون، آن لنا، نحن السوريين، أن نفهم هذه الحقيقة، أن نفهم أن العالم كاذب، وأن الحقيقة الوحيدة التي يجب النضال من أجلها أننا شعبٌ من حقه الحياة، وأن لا تركيا ولا إيران ولا روسيا ولا أميركا ولا أوروبا ولا العالم كله معنا، بل يستخدمنا أدواتٍ وعبيدًا ومرتزقة وبيادق تجيد قتل بعضها بعضا. لقد زرعت هذه الحرب اللعينة ما هو أخطر من كورونا في وجدان السوريين، إنها فيروسات الطائفية البغيضة والكراهية والثأرية، وشوّهت قيم الحياة لديهم، وحصدت أكثر ما يستطيع كورونا أن يحصد، ووفرت للمستقبل ما يعطّل أسباب التعايش في وطنٍ، مهما كان شكله، إلى عقود طويلة.