كورونا .. فرصة لاجتراح أفق تنموي جديد

06 يونيو 2020
+ الخط -
لم تعد التنمية تتوقف على الجهود والقرارات الوطنية الديمقراطية فحسب، ولذا لابد من ميثاق واقعي يعالج الخلل الوظيفي للدولة، وينشد الربط بين ماهية العولمة وشروط الإسهام فيها بفاعلية، إذا لم يكن بدافع الأخلاق، فبدافع حب البقاء أو الحرص على الخلود. كما أن تجاوز حدود معينة من السلب الإنساني سيؤدي وظيفة الانتقاء الداروينية التي تعرّض الجميع للخسارة، ويؤدي إلى اضطراب يستحيل التكهن بعواقبه الكونية. والربط العضوي والتدريجي بين الاقتصادات المصدرة للمواد الخام والاقتصادات الصناعية لا يقصد منه تعميم "خلق المجتمع الاستهلاكي للبلدان الغنية"، أو اللهث وراء التقدّم المادي، إنما تجنب انخفاض استهلاك الفرد للطاقة، وهنا تكمن معضلة البشرية، والتي لا يمكن تجاوزها إلا باعتماد الدبلوماسية وسيلةً للتفاوض، لأن سباق التسلح قد صرف الموارد في غير موضعها، ولم يُفض إلى سلم (أو يحقق ازدهارا للحس العدلي)، إنما قد تستحيل معه سياسة توازن الرعب إلى رعبٍ حقيقي، إذا لم تتحذ الخطوات التي تراعي، أولاً، أهمية التوافق بين قادة الأمم لمواجهة التحديات التي سيمثلها السوق والثورة العالمية. ثانياً، منح الأرستقراطية الجديدة تمثيلا دولياً مع عضويةٍ كاملةٍ في المنظمات الاقتصادية والمالية والبيئية. ثالثاً، تطوير نظرية فيزيقية واجتماعية من أجل فهم أفضل لما سيحدث اجتماعيا وسياسيا في العالم. رابعاً، إيجاد لغة مشتركة تجدّد قواعد الأخلاق المقبولة كونيا وتحقق أخوية كونية اعتمادا لمبدأ الحوارية. خامساً، لابد من تفعيل حزم الإنقاذ مع وجود نية إصلاح حقيقية للنظام الكوكبي المالي.
السؤال: هل نشهد انتصاراً للطموح على العقلية الخرائطية الجامدة التي جعلت شعارها "لا تترك أي هدف وراءك!"، حال التفحص لأهداف الألفية الثالثة، أو ما يسمى تجاوزاً (أهداف التنمية 
المستدامة 2030)؟ دعنا نراجع الملفات. شهدت أهداف التنمية المستدامة الجديدة تحرّكات في أهداف الإنمائية للألفية وحصلت على تسعة أهداف إضافية. تنقسم أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر إلى 169 هدفاً محدّداً التزم كل بلد بمحاولة تحقيق أساسٍ طوعيٍّ خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة. على عكس الأهداف الإنمائية للألفية، يجادل المدافعون عن أهداف التنمية المستدامة بأن هذه الأهداف قد نشأت من عمليةٍ شاملةٍ حقا أتاحت لأصواتٍ من البلدان النامية التي أصدرها التكنوقراط مجالاتهم العليا.
ومع ذلك، يمثل الكم الهائل من أهداف التنمية المستدامة مشكلة، ولبعض الأهداف صياغات غامضة إلى جانب الافتقار إلى آليات المساءلة المستقلة، لقياس ما إذا كانت الدول الأعضاء الفردية قد حققت المعايير الحادّة هي وصفة لتقويض هذا البرنامج الجديد. بالنظر إلى التكلفة الباهظة التي لا يمكن تحملها، والتي تتراوح بين تريليونين وثلاثة تريليونات دولار في السنة، والتي وصفتها مجلة الإيكونومست في وقت واحد بأنها "خيانة لأفقر الناس في العالم". يجادل واضعو أهداف التنمية المستدامة بأن القضاء على الفقر، على سبيل المثال، سيتطلب أكثر من الصدقة، سيتطلب الحد من عدم المساواة ومكافحة تغير المناخ، وتعزيز حقوق العمال، والقضاء على الإعانات الزراعية الغربية، وما إلى ذلك، والأهم من ذلك، الاعتراف بأن الفقر مشكلة هيكلية معقدة.
تضع أهداف التنمية المستدامة وعياً بحقيقة أن شيئاً ما من نظامنا الاقتصادي قد ذهب على نحو رهيب، أن السعي الإلزامي للنمو الصناعي الذي لا نهاية له يمضغ من خلال كوكبنا الحي، وينتج الفقر بمعدّل سريع، ويهدّد أساس وجودنا. ومع ذلك، على الرغم من هذا الإدراك المتنامي، فإن جوهر برنامج SDG للتنمية والحد من الفقر يعتمد، بشكل محدّد، على النموذج القديم للنمو الصناعي إلى مستويات متزايدة من الاستخراج والإنتاج والاستهلاك (الهدف 8) مكرس للنمو، وتحديدا النمو الموجه نحو التصدير، تماشياً مع النماذج الليبرالية الحالية. يشجع التقرير النمو باعتباره الحل الرئيسي لمشكلة الفقر، ولكن هذه العلاقة ضعيفة للغاية من بين جميع الدخل الناتج عن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بين عامي 1999و2008، حصل أفقر 60% من البشر على 5% فقط منه. بالنظر إلى النسبة الحالية بين نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الدخل لأفقر الناس، فإن الأمر سيستغرق 207 سنين للقضاء على الفقر من خلال هذه الإستراتيجية، وللوصول إلى ذلك علينا تنمية الاقتصاد العالمي بمقدار 175 ضعف حجمه الحالي.
لمعالجة عدم منطقية النمو اللانهائي بصورة حاسمة، نحتاج الإشارة إلى أن النمو الرأسمالي، كما يقاس الناتج المحلي الإجمالي، ليس هو الحل للفقر والأزمة الإيكولوجية، بل هو السبب الرئيسي. ونحن بحاجة إلى قدر من التقدّم الإنساني لا يوجهنا نحو مزيد من الاستخراج والاستهلاك من جانب النخبة في العالم، بل نحو المزيد من الإنصاف، والمزيد من المساواة، والمزيد من الرفاهية، والمزيد من المشاركة، لصالح الغالبية العظمى من البشرية.
تحدّد أهداف التنمية المستدامة التعليم، مثلاً، جزءا من تعريف التنمية أكثر من كونه وسيلة 
لتحقيقه، وتفشل في دفع النقاش حول نوع التعليم الذي يجب تقييمه لأي غرض. يؤكد الخبير البريطاني في التربية والتنمية، كيث لوين، أن الفرضية قد راحت للتفكير أكثر في تلك التي تحوّل العقول والأيدي والقلوب وتقديم نظرة ثاقبة لما قد يكون التعليم المصمم لتعزيز التنمية الصديقة للمناخ واحترام حقوق الإنسان والمفيد اقتصادياً. إن إستراتيجية بناء المواطن المستنير مع قدرات العمل الجماعي هي أساس التنمية المستدامة، على الرغم من أنه لا يوجد في النص ما يفسر حقا كيف ترتبط الأهداف والغايات الجديدة للتعليم (الهدف 4) بجميع أهداف التنمية المستدامة الأخرى التي يكون لمعظمها أبعاد تعليمية، أو لماذا الوصول إلى أبعد من ذلك، أولاً يعتبره أمرا منطقياً لتقديم الخدمات هو نظامي، وليس على هامش النظم التعليمية السليمة في الأساس.
لقد أدت العملية الأكثر شمولاً التي ولدت أهداف التنمية المستدامة إلى تركيز أقل وأهداف وغايات أكثر تناقضاً، ونقص في تحديد الأولويات أو الصدق حول التكاليف والمفاضلات لتحقيق التطلعات. ويتطلب سد الفجوة بين خطاب تطلعات وواقع الإجراءات اهتمام الأطراف الملتزمة من حيث المبدأ بجدول أعمال 2030، فكلما حاولت دولةٌ ما التمسك عن عمى بقائمة الأهداف الـ 17 والأهداف "المحدّدة" كان من السهل عليها تجاهل الأجزاء غير المريحة، وزادت فرصة الوصول إلى نوع الشلل عن طريق التحليل الذي يركز على القياس في حساب المعنى. قد توفر خطة عام 2030 إطاراً لتنسيق الجهود بشكل أكبر لإنهاء الفقر والأمراض بدعم مالي من الدول الغنية. ومع ذلك، هناك خوفٌ من أن يحبس برنامج التنمية العالمي للأعوام الخمسة عشر المقبلة نموذجا اقتصاديا يتطلب تغييرات هيكلية عاجلة وعميقة، سيما أن جدول أعمال أهداف التنمية المستدامة غير كافٍ لدعم وسائل التنفيذ التشغيلية (MoI) على المستوى المحلي (الدول الأعضاء الفردية) على سبيل المثال، الشركات والمستثمرين من القطاع الخاص.
في غياب الإرادة السياسية للإصلاح وضعف السياسية الإدارية، قد تستحيل الرؤية الاستراتيجية للتنمية المستدامة 2030 إلى مثيلتها من "أهداف الالفية" التي أضحت بمثابة وثائق أدبية دسّت في أضابير الخبراء العالميين والوطنيين. وقد كانت الشراكة (الغائبة حينها) كفيلة بتفعيل قنوات الشفافية والمحاسبية، وتقنين سبل التواصلية/ التداولية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. بيد أن محاولة النظام الاقتصادي العالمي لاستمالة النخب الاقتصادية المحلية مستخدمةً أساليب ناعمة وأخرى خشنة، قد حرمت كثيرا من البلدان النامية من فرصة استشراف وضع اجتماعي وسياسي، ينتج أقصي حد من الانبثاقات والإبداعات، ويفرض أدني حد من الضغوط. وإذ ظلت مجهودات المجتمع الدولي تسترشد، بوعي أو من دون وعي، بهدي الفلسفة الوضعية المادية، فقد افتقرت المؤسسات الدولية إلى النوازع الأخلاقية الرامية للنظر للكون، بوصفه وحدة جمالية ستهتك ويستحيل نورها إلى هباء، متى افتقرت إلى أحد مكوناتها. لا يهم إن كانت كورونا من صنع الإنسان (الأمبريالي) الذي أزعجه اكتظاظ الكون "بكائناتٍ بائسة" و"غير منتجة"، فقرّر التخلص منهم، أو من صنع الطبيعة التي أغضبها سوء إفراط البشر (الأغنياء منهم
خصوصا) في استهلاكهم الموارد، فعمدت إلى تلقينهم درساً قاسياً. المهم أننا أدركنا جميعاً، فقراء وأغنياء، ضعفنا وقلة حيلتنا، بل وهواننا، إذا ما عبثنا بقانون الكون. لطالما عوّلت كل العقائد الكونية والفلسفات الأخلاقية على التكافل في إحداث التماسك بين المجتمعات، وبينت خطورة استئثار فئة بالموارد دون الآخرين. لو أنّ دول العالم المقتدر صرفت واحدا في الألف ممّا تصرفه في التسليح على التنمية، لاكتفى كل مواطن على ظهر البسيطة من احتياجاته كافة، يشمل ذلك الصرف الصحي، مياه الشرب، المأكل، المأوى والملبس. ولكن هيهات، فقد ظلت الدول الغنية تفكّر بطريقةٍ اتسمت بالاستعلاء، واستمرأت التعامل بصورةٍ شابها الانتقاء، حتى استحوذت أقلية لا تكاد تتجاوز 2% على ثروات 98% من البشرية، الأمر الذي فاقم من حجم المعاناة، وضاعف الهوة بين المتخمين والمحرومين. وإذ قاربت العولمة بسحرها بين المسافات، وباعدت النظم بين الأفئدة، فإن المعوّل يبقى على الضمير الذي قد يستحث نخبة كوزموبوليتينة مدركة، واعية، متخلقة وعازمة علي خوض المعترك السياسي التنموي مدنيا وسلميا، من خلال الاعتماد على التدافع الحيوي الذي لا يتجاوز المؤسسات الإقليمية والدولية، لكنه يعمل على إعادة النظر في صياغة دساتيرها ومراجعة هياكلها كي تؤدّي دورها في جبر وحدة المصير الإنساني، وتسعى إلى تحقيق غايته من الازدهار والنماء. قد لا نحتاج جائحة أخرى كي تنذرنا، فإن الإفلاس الأخلاقي قد يهدّدنا بالهلاك ويمسنا بالضنك، وذلك قبل مجيء كورونا!
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
الوليد آدم مادبو

كاتب سوداني، خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية

الوليد آدم مادبو