كورونا تنتصر لليبرالية الاجتماعية

04 ابريل 2020
+ الخط -
(1)
حين اعتقد أنصار المدرسة البرجوازية التقليدية أن آلية السوق الحرّة قادرة على إنتاج السلع والخدمات بكفاءة عالية، شريطة توفر بيئة من الحرية والمنافسة، لم يميزوا بين سلع وخدمات مادية وسلع وخدمات غير مادية، أي أنهم لم يميزوا بين سلع وخدمات يمكن أن تباع في السوق، وتخضع لقوانين العرض والطلب والتكلفة والربح، وسلع ليست كذلك، لأن انخفاض سعرها لا يزيد الطلب عليها، وارتفاعه لا يقلل الطلب عليها. لا يذهب الصحيح إلى المستشفى، حتى وإن كان العلاج رخيصاً، ويذهب إليها إذا كان مريضاً حتى وإن كان العلاج غالياً. حرية الاختيار التي يفترض وجودها هي التي تفعل فعلها في آلية السوق. هذا يعني أن الصحة إذا اعتبرناها سلعة فهي حاجة حيوية، غير مادّية، ولا ينطبق عليها ما ينطبق على السلع المادية، إنها الصحة والرعاية الصحية، وكذلك لا تنفع فيها عقلانية المستهلك التي تفترضها النظرية الرأسمالية الكلاسيكية، إذ لا يستطيع المريض استهلاك جزء من الدواء، أو جزء من عملية جراحية.
وعلى هذا الأساس، فإن آلية السوق الرأسمالية التي تفترض أنها تحمي الأفراد غير موجودة، وبالتالي فإن ملكية الرأسماليين هذه السلعة سوف تجعلها وسيلة للاستغلال أكثر من باقي السلع والخدمات، لأنها تتعلق بحياة الإنسان وتجعله بين الحياة والموت. "سلعت"، من سلعت الرأسمالية هذه الحاجة الأساسية، من دون أن تمكّنها من الاستفادة من آلية السوق والسعر والمنافسة والعقلانية، وتركتها للقطاع الخاص وسيلةً للاستغلال والربح الفاحش أكثر من السلع المادية، كالسيارة والبراد والهاتف، فالإنسان عندما يمرض ويحتاج إلى الرعاية الطبية لا يستطيع الاستغناء عنها أو تأجيلها أو، على الأقل، التقليل من استهلاكها.
(2)
بعد أزمة الكساد الكبير التي ضربت العالم، تراجع مذهب الحرية الاقتصادية مع مجيء جون 
مينار كينز داعياً إلى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، لأن النظام الحر لا يملك الكفاءة اللازمة لتوفير فرص العمل والإنتاج. يرى كينز أن على الدولة أن تقوم بمجموعة من المهام لم تكن تقوم بها سابقاً، وأن مهمتها لم تعد تقتصر على حماية الملكية وتحقيق العدالة وصد العدوان الخارجي. وكذلك لم تعد مهمة الدولة حماية الأسواق وتحقيق المنافسة وإفساح المجال أمام الرأسماليين لتحقيق الأرباح. وعلى الرغم من هذه المهام الجديدة للدولة، فإن كينز لم يصل إلى التمييز بين سلع مادية، تخضع إلى قوانين السوق وسلع غير مادية لا يمكن أن تخضع لتلك القوانين، فالرعاية الصحية كسلعة، كما سبق القول أعلاه، لا يمكن أن يتحدّد سعرها بالعرض والطلب، وبالتالي تصبح مرتعاً خصباً للقطاع الخاص لتحقيق الأرباح وتقليل الخسارة، على الرغم من أنها "سلعة" أساسية، تتوقف عليها حياة الإنسان، ولا يمكن تفادي المريض الاستغلال الذي يمكن أن يعاني منه بأي طريقة كانت.
(3)
بعد ذلك بقليل، بدأت تظهر عيوب الكينزية وعدم قدرتها على معالجة مشكلات الكفاءة التي تواجه أميركا والدول الرأسمالية الكبرى في الخمسينيات والستينيات، ما حدا بفريدمان، أحد أنصار كينز ومعارضيه في آن، إلى نشر كتابه "الرأسمالية والدولة" عام 1962، الذي يدعو فيه إلى بقاء الدولة خارج المسائل التي لا يتطلب وجودها، وأن الدولة يجب ألا تشرك نفسها إلا بالمحافظة على الشعب وأمنه العام. وهنا زادت الطامة التي سببتها النظرية الرأسمالية والكينزية أكثر، حيث تجاهل فريدمان الصحة باعتبارها مجالاً حيوياً لتدخل الدولة، ولم يدرك، أو أنه أدرك وتجاهل، أن القطاع الخاص لا يستطيع تقديمها بكفاءة بعيداً عن الاستغلال والجشع.
وقد جعلت فوبيا تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية فريدمان يؤكد قدرة الأسواق، عندما تكون حرّة، على رفع كفاءة الاقتصاد في جميع المجالات، بما فيها الخدمات الاجتماعية، وعلى إخفاقها عندما تتدخل الدولة، من دون أن يعي، مثل كينز، أن الصحة ليست سلعة، وليس لها سوق يرفع الكفاءة. لو كان فريدمان حاضراً اليوم (توفي عام 1996) لما استطاع أن يقف ضد تدخل الدولة من أجل حماية الناس من وباء كورونا، ولما تردّد، وهو يشاهد الآلاف يموتون، في اعتبار الصحة سلعةً وطنيةً تتعلق بحياة الأفراد وبالأمن الوطني لمجموع الأميركيين، ولوجد أن هذه "السلعة" التي نسميها الصحة مختلفة عن السلع المادية، ولا تنطبق عليها قوانين السوق، وبالتالي لا يمكن أن تترك للقطاع الخاص.
(4)
لم يستطع النظام الرأسمالي المتوحش اعتبار الرعاية الصحية مهمة الدولة الأولى، لأنها، وفق 
منطقه، تخضع، مثل باقي الأنشطة إلى قوانين السوق، في العرض والطلب والسعر والمنافسة والربح والخسارة، ولذلك الدولة غير معنية في توفير أي برامج صحية حكومية، لأن هذه باعتبار الرأسماليين شكل من أشكال تدخل الدولة الذي يفسد، في نظرهم، السوق، ويتعارض مع كفاءة تخصيص الموارد. وقد ظل نظام الحرية الاقتصادية عاجزاً عن تلبية الحاجات الحياتية للإنسان في نظام صحي حكومي في متناول جميع الأفراد، باعتباره حقاً إنسانياً، مثل حق الحياة والعمل والأمن والحرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، ازداد الصراع داخل المجتمع الرأسمالي بين الداعين إلى أن وظيفة الدولة هي توفير الرعاية الصحية، باعتبارها سلعة جماعية واجتماعية، لا يمكن أن تتوفر بناء على آلية السوق، والداعين إلى ترك السوق يؤمّن حاجات الإنسان الأساسية، بما في ذلك الصحة. ولأن الرأسمالية الصاعدة توسعت في جميع الاتجاهات، فقد ترك قطاع الصحة للقطاع الخاص والأهلي، من دون أن يقع على عاتق الدولة كقطاع الأمن، وتركت صحة الفرد وحمايته من الأوبئة والأمراض مجالاً لاستغلال الرأسماليين الذين اعتبروا المشافي والمستوصفات أنشطة لاستغلال المرضى والضعفاء.
لقد أصبح الدور الاجتماعي الذي تدّعيه الدولة، وخصوصاً منذ ثمانينيات القرن الماضي في أميركا وفرنسا وإنكلترا، بدون معنى. الدولة تقدر على إنفاق المال لتنشيط الاقتصاد، كما يحدث اليوم، ولكنها لا تقدر على حماية الإنسان من وباء سريع يجتاح المجتمع ويدمر الدول، وهذا تأكيد على أنه لا فائدة من الاقتصاد القوي والتكنولوجيا إذا لم يستطيعا حماية الإنسان من المرض.
(5)
ما يحصل اليوم أن النظام الرأسمالي يصل إلى قمة الاستغلال، يراكم الثروات، ويزيد نفقات الأمن والتسلح، ليحافظ على الدولة القوية التي تفرض شروطها الاقتصادية على العالم، ويسعى، في الوقت نفسه، إلى التخلص من معوقات التراكم الرأسمالي، إذ يأتي في مقدمة هذه المعوقات، في نظر الرأسماليين، الضمان الاجتماعي والتقاعد، وتكاليف علاج المرضى المزمنين، وتكاليف رعاية كبار السن.
تنظر الدولة الرأسمالية المتوحشة الحالية إلى الفرد عنصراً للإنتاج، وليس عنصراً للرعاية 
والمعالجة. وعلى هذا الأساس، يجب أن يكون شاباً يعمل وليس كهلاً يحتاج للعلاج، وبالتالي تنظر الدولة إلى كبار السن على أنهم مصدر الإنفاق الأكبر الذي يحرم الشباب من عائد عملهم، ويحرم الدولة من إمكانات التفوق والاستثمار والتكنولوجيا والقوة، بحسب رأي رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون.
حتى إذا نظرنا إلى آلية نظام الرعاية الصحية الرأسمالي الحالي، بشقيه الخاص والحكومي الخجول، نجده يستند إلى "إنتاج" أو معالجة الأمراض القابلة بسرعة للعلاج، والابتعاد عن "إنتاج" أو معالجة الأمراض المزمنة وأمراض الشيخوخة، بالإضافة إلى أن النظام الصحي الحالي لا يعير اهتماماً لموضوع الوقاية من الأمراض، لأن الوقاية تقلل الطلب على "السلع" التي يقدّمونها للمرضى، وتقلل من أرباحهم، خصوصاً وأن أمراضاً كثيرة لا تحتاج إلا إلى قليل من الوقاية. هذا يعني أن نظام الرعاية الصحية الحالي يستند إلى آلية بعيدة عن الأخلاق، وتتناقض مع المثالية التي يدّعيها النظام الرأسمالي.
(6)
قبل أن نصل إلى موقف الليبرالية الاجتماعية من الرعاية الصحية، مفيد المرور على موقف الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، من الرعاية الصحية، وقد بنى فلسفته من واقع الحياة، من السجون والمدارس والمستشفيات، إذ اعتقد، بشكل عقلاني، أن الصحة أهم من "الاقتصاد والحرية" التي يشن الغرب من أجلها الحروب والغزوات. يرى فوكو أن الدول الرأسمالية التي تتسابق وتتباهى في الدفاع عن حق الإنسان في حرية التعبير، وتضعها فوق كل اعتبار، تتناسى، في الوقت نفسه، حقه في الصحة والحياة. ويتساءل فوكو عن قيمة الاقتصاد والمادة والحرية والقانون والعمل، حين يصبح الإنسان نزيل قبر أو طريح فراش، ويتساءل عن عظمة الرأسمالية، حين يصبح الإنسان غير قادر على الاستفادة من كل منجزات التقدّم العلمي الذي حققه العالم.
بيّن فوكو أن تنظيم المجتمع على نحو نيوليبرالي يفترض تدخلاً متصلاً ومتواصلاً من الدولة، لأنه يعتبر أن الحرية والمنافسة لا تكفيان، بل حتى البنى الاقتصادية وحدها لا تكفي، إذا لم ترتبط بالسلوكيات البشرية والبنى الحياتية. ويصل فوكو إلى أن الدولة وحدها القادرة على خلق إنسان اجتماعي آخر، وعلى خلق عالم آخر أساسه حقوق الإنسان.
ماذا لو شهد فوكو العالم في زمن كورونا، وهو الفيلسوف الذي لم يكن مع الليبرالية الجديدة ولا ضدها؟ كان سيرى ماذا حل بالتقدّم العلمي الذي تدّعيه الرأسمالية، وماذا حل بالتعاون الدولي وبالعولمة. كان سيرى حال الدول الرأسمالية عالية التقدم والتقنية كيف تعجز عن توفير كمّامات وأدوات تنفس لمرضاها. كان سيرى الدول التي صنعت الطائرات والصواريخ وغزت الفضاء انكشفت وأصبحت تعجز عن دفن موتاها. كان سيرى الإنسان الذي تشدقت بحقوقه كيف يعاني من البؤس والتهميش والإهمال. لو عاش فوكو حتى اليوم لرأى كيف تنمّرت الرأسمالية التي نقدها وعرّاها قبل أن تتوحش، كيف أصبحت في زمن كورونا عاجزة عن تقديم أبسط أنواع العلاج والدواء واللقاح.
(7)
على النقيض من كل ما تقدّم بشأن موقع الرعاية الصحية في الأفكار والوقائع الاقتصادية 
والاجتماعية حتى اليوم، الليبراليون الاجتماعيون الذين يدعون إلى دولة ليبرالية اجتماعية هم أفضل من تحدث ونافح من أجل اعتبار الصحة حاجةً حياتية اجتماعية تقع على عاتق الدولة، ففي نظرهم من غير المعقول أن تتطابق مصالح الرأسماليين، أصحاب المشافي والمستفيدين من قطاع الصحة، مع مصالح المرضى المحتاجين للرعاية. يريد أصحاب العمل الرأسماليين مزيداً من الطلب وبالتالي مزيداً من المرضى، وقليلاً من التكلفة، وبالتالي قليلاً من الأطباء والممرّضين والأجهزة الطبية والمستلزمات، وبالتالي أعلى ما يمكن من الأرباح، والمرضى يريدون مزيداً من العناية وقليلاً من التكلفة، أو يريدون التكلفة على عاتق الدولة.
يظهر عجز الغرب عن التصدّي لوباء كورونا، بسبب إهماله قطاع الصحة، وتركه إياه مشروعاً رأسمالياً لتحقيق الأرباح وابتزاز المرضى والفقراء. فشلت الرأسمالية، وفشلت ترقيعات الليبرالية الجديدة التي راكمت ثروات الأغنياء، وتركت الفقراء يعانون من المرض والفاقة. طباعة الأموال ودعم الشركات الخاصة وتوزيع الإعانات على المتضرّرين لن تجدي نفعاً في محاربة الوباء أو تقليل آثاره. فيما يرى الليبراليون الاجتماعيون أن الصحة مثل الأمن، يجب أن تملكها وتقوم بها الدولة، وإذا كان هناك قطاع خاص يقدّم خدمات أفضل مما تقدم الدولة فيجب عليها مراقبته والإشراف عليه، مثل مراقبة الأسواق والإشراف عليها في نظام الحرية الاقتصادية.
ستجعل كورونا الحكومات تعود إلى رشدها، خارجياً بالتعاون الدولي الصادق، وداخلياً بتخصص جزء كبير من ميزانياتها للوقاية والعناية والأبحاث المخبرية الطبية والأدوية واللقاحات. سوف يعود العالم إلى الأخلاق، في تخصيص الأموال لخدمة المتقاعدين وكبار السن والأمن المعيشي للسكان.
avata
تيسير الرداوي

أستاذ جامعي ورئيس هيئة تخطيط الدولة في سورية سابقاً