كورونا إيطاليا... تعايش مجتمعي وضغط على النظام الصحي

19 مارس 2020
فرغت ساحات البلاد وشوارعها (ستيفانو غويدي/ Getty)
+ الخط -

تعيش إيطاليا واقعاً مجتمعياً مختلفاً تماماً عمّا عُرفت به قبل تفشي وباء كورونا الجديد في البلاد وحصده أرواح نحو ألفين، بالإضافة إلى نحو 25 ألف إصابة، إذ تغيرت عادات الناس ونشاطاتهم.

لم يعد التغيير الذي تشهده "حياة الإيطاليين المجتمعية، خصوصاً حبهم للخروج إلى المطاعم والمقاهي" يقتصر على منطقة دون أخرى، بسبب انتشار فيروس كورونا الجديد فيها، كما يؤكد المهندس الإيطالي- الفلسطيني، عبد السلام خرما، من ميلانو. يضيف: "بالتأكيد تأثرت حياة الناس في معظمها، عما كان سابقاً، خصوصاً في ميلانو التي كانت أكثر صخباً في السابق، واليوم تستطيع قطع المدينة بسيارتك بنحو 10 دقائق، فقد اختفت مظاهر الاختناق المروري في معظمها". وذلك كلّه بعد أمر حكومة رئيس الوزراء، جوزيبي كونتي، بإغلاق الأقاليم والمؤسسات بعد تفشي المرض انطلاقاً من الشمال، وانتشاره بشكل سريع متجاوزاً إقليم لومبارديا.

خلال أسابيع قليلة تطورت العدوى في البلاد دراماتيكياً، وهو ما شكل ضغطاً على النظام الصحي وعلى المجتمع الإيطالي عموماً. وبالرغم من ذلك، وبحسب مقيمين في مناطق إيطالية مختلفة فإنّ قرار الحكومة الإيطالية بمنع الخروج من البيوت والتنقل إلا للضرورة القصوى "يساهم في الحدّ من انتشار العدوى بأكثر مما هي عليه اليوم" وفقا لما يذكر لـ"العربي الجديد" الدكتور الإيطالي- السوري من جامعة فلورنسا، أدهم الكحلاوي. يتابع أنّ "الدولة قامت باستدعاء الأطباء والممرضين الذين أحيلوا إلى التقاعد ليساعدوا في وقف تفشي المرض".

فلورنسا التي تعد مدينة سياحية بامتياز باتت أشبه بمدينة أشباح، فليست فقط معالمها ومتاحفها السياحية ما أغلق "بل كلّ شيء إذ لا نزور الحدائق العامة أو المطاعم والحانات" بحسب الكحلاوي، الذي يضيف أنّه في البداية وحين اتخذت السلطات عزل أقاليم عن بعضها "راح الناس يلتقون في الحدائق ويشربون القهوة في المقاهي، ولم يأخذوا التحذيرات على محمل الجد بداية، ما ساهم بانتشار مزيد من العدوى، فتدخلت السلطات لتفرض البقاء في البيوت وتسيّر دوريات تمنع الناس من الخروج إلا إلى وجهة محددة".

تسوق من أجل العزل المنزلي في تورينو (فرانس برس) 

ومن ميلانو، يذكر خرما أنّه ما زال يذهب إلى مكتب عمله الهندسي، ويظهر لـ"العربي الجديد" قسيمة "تعهد" باللغة الإيطالية "يجب إبرازها إذا أوقفت دورية شرطة من يخرج من منزله، فهي تعهد شخصي بأنّ المواطن ذاهب إلى الصيدلية أو لشراء بعض السلع قرب مكان سكنه، وليس لأماكن أبعد". وعما إذا كانت هناك ثمة مخالفة لمن يتعدى حدود التعهد يجمع الدكتور الكحلاوي والمهندس خرما على أنّ المخالفة تسجل كمخالفة جنائية ويدفع صاحبها غرامة مالية: "النظام يعمل عن طريق كومبيوترات متصلة بعضها بالبعض الآخر، بين الدوريات، فقد أوقف شخص مثلاً، خرج أبعد من نطاق سكنه في منطقة ميلانو بمسافة 10 كيلومترات بحجة أخذ كلبه في نزهة، فسجلت مخالفة بحقه تتجاوز 500 يورو، وأجبر على العودة إلى تجمعه السكني".

تبقى الأسر المحتجزة في سكنها، خصوصاً تلك التي لديها أطفال، تعيش ضغوطاً نفسية ومجتمعية كبيرة "فقد تغير كثير من العلاقات بين الناس، ولم يعد الأمر كما كان، فمدينتنا ميلانو معروفة بأنّها مدينة حيوية، تخرج فيها الأسر في أيّ وقت مساء لتجد المحال التجارية والمقاهي والمطاعم وحدائق وملاعب الأطفال مفتوحة، أما الآن فحتى الملاعب في داخل المجمعات السكنية مغلقة"، بحسب خرما. يضيف: "الناس يتحملون الإجراءات بالطبع لأنّهم يشاهدون ما يجري من حولهم وفي العالم من إصابات ووفيات، ولهذا بدأت العلاقات والزيارات والخروج إلى التنزه في الانحسار، بمبادرات ذاتية. كذلك، شهدت المدينة غناء جماعياً من الشرفات، وتصفيقاً، للطواقم الطبية كنوع من التشجيع المعنوي لما يقوم به هؤلاء تحت ضغوط كبيرة". يشير خرما إلى أنّ ميلانو تتجه الآن لتجهيز "قاعة المعارض الضخمة لتحويلها إلى مستشفى استقبال ميداني بسبب الضغط على المستشفيات". وعن التكاليف المالية للفحوص والعلاج يجمع الكحلاوي وخرما على أنّها مجانية في ميلانو وفلورنسا "فلدينا نظام صحي يغطي كلّ هذه المتطلبات".


في هذا الإطار، تذكر الممرضة، إيمانويلا فابيو، من لومبارديا لـ"العربي الجديد" أنّ "اضطرار الدولة لطلب مساعدة من الصين جاء بعد خيبة من غياب سياسة تضامن أوروبي، إذ إنّ كلّ دولة تحاول أن تواجه الفيروس بمفردها من دون تفعيل آليات تنسيق مشتركة". وتذكر فابيو أنّ "مستشفيات الشمال الإيطالي تعاني بالفعل من ضغوط كبيرة للحاجة الماسة لإدخال الناس إلى العناية المركزة، ولا تتحمل أسرّة المستشفيات كلّ هذه الأعداد المتزايدة التي تحتاج إلى أوكسجين للمساعدة على التنفس خصوصاً كبار السن المصابين". وفي السياق نفسه، يذكر الطبيب العائد للعمل في أحد مستشفيات لومبارديا، فابيو ستيفانازي، وهو من بين 1600 موظف سابق لبوا نداء الحكومة للعودة إلى عملهم، أنّه "بعدما تركت الطب عام 2014 طُلب مني الرجوع، وخضعنا لدورة سريعة لعدة ساعات في مجال الوقاية الذاتية من فيروس كورونا الجديد، وكيف نعدّ سريعاً أجهزة الأوكسجين لأبدأ العمل فوراً الإثنين الماضي".

كان يصعب على ستيفانازي تقديم صورة عما يجري في المستشفيات بعد عودته من التقاعد تلبية لنداء الحكومة لنحو 20 ألف موظف سابق في القطاع الصحي الالتحاق به للمساعدة في وقف الوباء، لكنّه يقدّر في الوقت الراهن أنّه "لو لم يكن الأمر مخيفاً لما كنت سأستدعى إلى العمل وأباشره فوراً".

إلى ذلك يذكر الكحلاوي أنّه جرى تأمين 600 سرير بالتعاون مع الدفاع المدني ومدينة فلورنسا "فأغلب الحالات التي تصاب وتتوفى هي في حدود 80 عاماً كمعدل، آخذين بالاعتبار ديموغرافية مجتمع إيطاليا الكهل، فمن الطبيعي أنّ من هم فوق الستين يصابون أسرع من غيرهم، وفي الواقع ما يمكن القيام به في غياب لقاح وعلاج للفيروس هو معالجة الأعراض والمساعدة على تقوية مناعة الجسم". وعلى الرغم من أنّ موظفي القطاع الصحي السابقين بدأوا يستجيبون لنداء الحكومة في العودة إلى العمل فالصحافة الإيطالية، ما زالت تتحدث عن نقص وأنّ الخطوة "غير كافية لوقف هذا الانتشار المتسارع". يشير بعضها إلى أنّه بعد زيارة وفد طبي صيني لإيطاليا، ربما تُطلب مساعدة أطباء من كوبا وفنزويلا.


شارع آخر خالٍ في شمال إيطاليا (العربي الجديد) 

من جهته، يشير خرما إلى أنّه فُرض على المصانع "أن تقدم إثباتات أنّها قادرة على حماية العمال، وإلا فيجب إغلاقها، مثل بقية القطاعات التي أغلقت أبوابها حتى الثالث من إبريل/ نيسان المقبل".

على الرغم من الأرقام المتسارعة، من إصابة ووفاة، يُظهر الإيطاليون تضامناً مجتمعياً ووطنياً يومياً، فالأحد الماضي، عند الساعة التاسعة "بدأ الناس بعد أداء النشيد الوطني على الشرفات يشعلون أضواء هواتفهم المحمولة والغناء والتخاطب من خلال الشرفات"، بحسب الكحلاوي. تعتبر الممرضة فابيو أنّ تصرفات الإيطاليين في زمن الأزمة تنمّ عن تضامن إنساني "فقد تحدى الناس أنفسهم الشائعات والأخبار الكاذبة التي بدأت تنطلق من هنا وهناك والتي تقول إنّ الناس يموتون في الطرقات ولا أحد يقترب منهم، ففي الأساس ليس هناك مصابون يخرجون إلى الطرقات، وفي الوقت نفسه تكشف الأرقام أنّ منحنى العدوى كان يمكن أن يكون مرعباً لولا أنّ الناس التزموا فعلاً بالاحتياطات التي طلبتها الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم". تضيف أنّه "ثمة بارقة أمل إذ يمكن أن أخبركم أنّ المصاب الأول وعمره 38 سنة في مدينة كودونيو (وكان عداء ماراثون سابقاً) بإقليم لومبارديا استيقظ الآن بعد شهر من الغيبوبة، وبدأ التنفس الطبيعي، ما يعني أنّنا يمكن أن نتغلب على هذا الفيروس إن تضامنّا جميعاً حول العالم".



تذكر فابيو أنّ "سلطات مدينة بيرغامو بدأت نقلاً جوياً لبعض المصابين إلى مستشفيات في جنوب البلاد". وكان مستشفى بيرغامو في شمال البلاد عانى من ضغط هائل خلال الأسبوع الماضي لكثرة المصابين الذين يحتاجون إلى أسرّة في العناية المركزة، وهو ما أدى بالأطباء إلى اتخاذ قرارات وتقييمات ذاتية بمن يجب وضعه على أجهزة التنفس الصناعي بعد تكاثر حالات الحاجة الماسة بين مواطني المدينة للمساعدة في التغلب على الأعراض. ومن الجدير ذكره أنّ "الذي يصاب أو يشك بإصابته يجب ألاّ يتحرك بنفسه من البيت إلى المستشفى، فمجرد اتصال برقم 112 يجري تقييم الحالة بعد معرفة درجة حرارة الجسم وترسل سيارة إسعاف مجهزة لإحضار المريض، ويجري فحص أسرته في عين المكان للتأكد من عدم إصابة أفرادها"، بحسب الكحلاوي.
المساهمون