كنتُ أحتاج أن أفرح معك

15 يونيو 2015
سنغير العالم يا عليا (فرانس برس)
+ الخط -

تُخرجُ قطعة "تشيز كايك" من برادها الصغير. تجلسُ على الكنبة البنفسجية وتفكّر أنها لم تعد قادرة على الابتسام في وجه أصدقاء ملّت أحاديثهم. منفصلة عن العالم، وكأن الحياة أشبه بسيدة وقورة تجلس على كرسي خشبي وتراقبها من بعيد. ترى الآخرين يلهثون خلف تفاصيل لم تعد تعنيها. تكون معهم ولا تسمع إلا صدى أنفاسها، وصوت قطرة مياه مزعجة تلاحقها ولا تعرف مصدرها. تدرك تماماً أن لا شيء حقيقياً في العالم المجنون.

ملّت الاستيقاظ يومياً بجفون منتفخة. ملّت ترتيب حواجبها الكثيفة. عليا فتاة شعرها أحمر، تجاوزت الثمانة والعشرين من عمرها. تعرفت عليه في أواخر شهر فبراير/شباط عام 2011، في ساحة عرنوس في الشام، مع مجموعة من الأصدقاء. كان جهاد الأكثر غروراً ونهماً للسجائر. شعره بني مبعثر ومهمل، وبشرته سمراء. علّق حول عنقه خيطاً أخضر مجدولاً من نبتة القنب، في أسفله شكل عشوائي لم تعرف معناه.

حدّثها عن يوم الغضب واستعداده للتظاهر. كان شغوفاً بحلم الحرية. جذَبها إصراره على التغيير وحديثه عن نضالات الشعوب والثورة الفرنسية والراقدين في أقبية المدينة. أضاء عينيها، وشعرت بسذاجة وتقصير أمامه كأنها طفلة تعلّمت حروفها الأولى للتو.
في نهاية السهرة، ذهبا معاً في التاكسي. طلب منها رفع خصلاتها الحمراء ليحيط عنقها بخيط أخضر. قال: "الحرية هي الحقيقة الوحيدة. سنغيّر العالم يا عليا، أنا مؤمن بذلك".

احتضنهما بيت قديم في بيروت مدة سنتين، بعد فرارهما من جحيم الاعتقالات في دمشق. اليوم، تنتظر فيزا تنقلها إلى لندن التي وعدها بها ريثما تستقر أوضاع البلاد. تتذكّر اقتباسه عن هوغو: "ليس هناك شيء أقوى من فكرة قد آن أوانها!". تردّد في قلبها: "التضحية بالفكرة أسهل بكثير من تحقيقها".

تتمنّى أن تُصاب بالشيزوفرينيا، لعلّ ذلك يدخل القليل من المتعة والإثارة على حياتها. تتخيّل نفسها مريضة تثرثر مع نفسها. بيروت بالنسبة لها سيدة أرستقراطية لها أظافر حمراء حادة، مرهقة من الاستعراض والشكليات، مولعة بالسهر وصيد الشباب لتوقعهم في فخها، على عكس دمشق العجوز المتعبة من أولادها. تشتاقها اليوم، وفي محاولة للهرب من متاهة الحنين، تستحضرها بأبشع صورها. استخدمت الحيلة نفسها التي قتلت فيها شوقها لدمشق معه، وحملت في حقيبتها صورة قبيحة له.
وهي نائمة، كثيراً ما تتخيل مشهد فأس يحطّم جمجمتها ويكسر عظامها لتتخلص من آلام لم يجد طبيبها سبباً فيزيائياً لها.

تريد الآن أن تكون امرأة عادية فقط، تتزوّج وتنجب سبعة عشر طفلاً. يكفيها حضن زوج غريب من دون ملامح تذكر. كلماته التي لامستها عن تغيير العالم لم تعد تعنيها. اقتنعت ألا تأخذ شيئاً على محمل الجدّ على سطح الكوكب. ووشمت على يدها: "كنت أحتاج أن أفرح معك، لا أن أغيّر العالم".

اقرأ أيضاً: لا ذكريات جميلة في سورية









المساهمون