كلينت إيستوود: مواجهة سينمائية للإعلام والدولة البوليسية

13 مارس 2020
كلينت إيستوود: أين الجريمة وأين البطولة؟ (مايكل كوفاك/Getty)
+ الخط -
في الـ90 من عمره، يعرض الأميركي كلينت إيستوود (مواليد سان فرانسيسكو، 31 مايو/ أيار 1930)، حالة "ريتشارد جويل" (2020)، الشاب الأميركي البسيط (بول والتر هوسر)، المتحوّل فجأة إلى بطل شعبي، تهاجمه المؤسّستان البوليسية والإعلامية. لكن عظمة عدالة الدولة الأميركية تقدّر قيمة الإنسان.

يدرسُ المخرج حالة من حالات ملايين النكرات من الموظفين الصغار في دروب الشركات. يعرض حالة فرد من الشعب تعكس حالة الجميع، غالباً. حالة وطنيّ يضع العلم الأميركي على قميصه، ويرفعه على باب بيته. أميركي يحب الـ"فاست فوود"، ويعاني الإسهال طيلة الوقت، حتى في الكلام. لكن الإسهال الدائم ليست مشكلته الرئيسية. يحبّ الوطني الأسلحة ورياضة الركض السريع، رغم أنّ وزنه زائد عن المعدل. متفائلٌ رغم صعوبة حياته. يمضي وقته في ممارسة الألعاب الإلكترونية.

تُجيب الدراسة السردية لحالةٍ عن سؤال محدّد: ما هي سمات الأميركي في نهاية القرن الـ20 وبداية القرن الـ21؟ صورة مأخوذة من وقائع حقيقية صارت كتاباً. يُصوّر المخرج حالة واحدة يفترض بها أنْ تمثّل غيرها. الفن تمثيلي، يُحاكي حالة واحدة تسمح للمتفرّج بالحكم على جُلّ حالات الأميركيين ونموذجهم عن طريق التعميم.



هذا منهج دراسة حالة سوسيولوجية لعرض مقطع طوبوغرافي للمجتمع الأميركي في لحظة تاريخية. يتزامن الزمن التاريخي مع "أولمبياد أتلانتا" عام 1996. يمتدّ زمن قصّة الأحداث على أقلّ من 3 أشهر، ما يضمن التتابع والتوتر. يعكس إخراج كلينت إيستوود الزمن بلقطات مذهلة، من تنوّع إضاءات الليل، و"برويتاج" مكبوح يخلق لحظات صمت وهدوء، لتمتصّ الشخصية نتائج ما يجري لها.

في هذا العمق لمسة سوسيولوجية على الشاشة. حالة يفحص فيها المخرج التفاصيل كلّها. هنا، ينحشر الشيطان كما يزعم مدمنو العموميات. هنا أيضاً مقطع طوبوغرافي للمجتمع الأميركي. السوسيولوجيا فن حديث. "السوسيولوجيا، ابنة الحداثة، مولودة من الرغبة في فهم الشأن الاجتماعي، والتأثير عليه" (فيليب كابان). من هذه الزاوية، المخرج يلتزم قضية. تتسبّب السوسيولوجيا، الناتجة عن انتصار الفكر العقلاني، في "نزع السحر عن العالم" (ماكس فيبر). الجديد أن المخرج يستخدم الكاميرا لإبراز سحر الحلم الأميركي وعظمته. مخرج يفهم بعمق سوسيولوجيا بلده، لذا يُقدّم المواطن العادي ببساطة وعمق شديدين. كلّ حكاية من دون عمق سوسيولوجي مجرّد فقاعة بلاستيك.

يحتاج المتفرّجون إلى أبطالٍ خارقين لإنقاذهم من مخاطر العالم. الخطر الأكبر هو الملل. لذا، تنجح أفلام المغامرات. جاءهم المخرج العجوز ببطلٍ عميق وخيّر، يقوم باكتشاف عظيم، ويحصل على مكافأة غريبة. فرصة تصير جحيماً، ومع ذلك يعتقد أنّه يستحق الأفضل، حتى لو لم يحصل عليه بعد. البطل يعرف حدوده. لذا، حين تقفز دار نشر مقاولة على ريتشارد جويل لكتابة سيرته، ينكشف طبعه المضاد للسمسرة، فيتوقّف المشروع. هذه علامة على فهم السيناريست بيلّي راي هوية بطله المستقيم، الذي لا يمارس أيّ تلاعب، حتى في خلوته. ظاهره يتطابق وباطنه. أنْ تطلب من شخصية أكثر مما تطيق طبيعتها، يجعلها غير قادرة على التصرّف خارج خريطة ردود الفعل المحفورة في وجدانها.

مع هذا الكَمّ كلّه من البراءة، صار الشاب متّهماً عن طريق الخطأ. المواطن الصالح ضحية خطأ. هل سيغضب؟ أبداً. يُذكّر هذا بفيلم لألفرد هيتشكوك، يستشهد به محامي ريتشارد جويل. في The Wrong Man، المُنجز عام 1956، يؤدّي هنري فوندا دور المتهم البريء بصدق. بريء يرى الظلم يحطّم حياته، من دون أنْ يكون لديه ما يثبت العكس. 4 نساء يشهدن ضده. هذا اليقين النسائي يُدمّر أعصاب زوجته، قبل أن يدمّره هو. كذلك في حالة ريتشارد جويل: البطل يُكنّ ولاءً كبيراً للمؤسّسة البوليسية، حتّى وهو يرى أعصاب أمّه تنهار.
يجري السرد بأفعال الشخصية، وبتنقّلها في الأمكنة. أفعال تُشَاهد، وأحداث تتطوّر. يتدحرج البطل نحو المصائب. يغوص في كآبة تُخالف طبعه المبتهج الراضي بالحياة كما هي. يُعبَّر عن ذلك بتصوير لحظات الليل وإيقاعه. هكذا يخدم الأسلوبُ الموضوعَ بعمق. مع مستوى فني كهذا، تصعب الكتابة عن أفلامٍ تبدو ناجزة بالكامل.

رغم المصائب، يبقى البطل الأميركي واثقاً. إنّه مواطن بسيط وواثق يكره تواضعه، بدليل أنّه يبدأ كلّ جُمله باستخدام ضمير المتصل، العائد على المتكلم المفرد "أنا". يتصرّف بحسّ صادق، ولا يسخر أبداً، حتى عندما يفعل شيئاً مُضحكاً، فهذا طبعه. هذا ليس اختلاقاً ولا قناعاً مُستعاراً. يتصرّف بخضوع، للضرورة ومن دون تذمّر، ويؤمن بالاستقامة والواجب.

في فيلم كلينت إيستوود، تتعرّض الشخصية الأساسية ـ التي تُتَابَع طيلة 129 دقيقة ـ لهجومٍ إعلاميّ على مواطن عادي، في زمن صعود سلطة التلفزيون، الناقل للحدث فوراً. هذا يوقع الصحيفة الورقية في محنة. لذلك، فالبحث عن سبق صحافي جحيمٌ يومي. تستخدم الصحافية الشابّة فخذيها للحصول على معلومات، ما يُتيح لها تبوّء زعامة الخطّ التحريري. نتيجة الهجوم خطرة: تهديد بتنازل البطل عن الوطنيّة، والاحتماء بأنانيته، والتصرّف بجبن مع كلّ خبر يتعرّض له، ما يُسبّب سقوط قتلى أكثر. تجنّب المواطن بذل كلّ تضحية سلوك يُسبّب أضراراً للوطن.

هكذا يغوص كلينت إيستوود في حالة إنسان بسيط في مواجهة الدولة البوليسية، التي يُثيرها الإعلام، للإمساك بالمجرم. تنهض الشخصية ضد خصومها في الثلث الأخير من الفيلم. في النهوض هذا، يعيش البطل تحوّلاً مع الفصل بين إيمانه المطلق بأجهزة الدولة الأميركية العظيمة وسلوك الموظفين، الذين يفتقرون إلى النزاهة الضرورية للقيام بوظائفهم. لذا، من يبدو أبلهاً يكشف مستوى ذكاء الحسّ الشعبي وعمقه، في مواجهة مقالب النظام البوليسي.

يُذكّر "ريتشارد جويل" بـ"سيلي" (2016) للمخرج نفسه. فيلمان بيوغرافيان مقتبسان من وقائع مشهورة. المقارنة بين بنيتي السردين في الفيلمين توضح أنّهما فيلما تحقيق في ما يجري: جريمة أو بطولة؟ فيهما بطل مُنقذ، تقطعه وسائل الإعلام. تتحوّل حياة الإنسان إلى جحيم عند ظهوره على الشاشات طيلة الوقت. في ظلّ الأزمة، للبطل ثقة هائلة بالتعليمات والنظام، ولديه إيمان هائل بضرورة الدولة. من دونها، ينتشر الخراب. بين الفيلمين فروق أيضاً. في "ريتشارد جويل"، يُعرف ما يجري، ثم تبدأ الاتّهامات، بينما في "سيلي"، تُعرف الاتهامات والتشكيك في البطل، ثم يحدث بحثٌ استرجاعي، يستثمر جهل المتفرّج بما وقع. نتيجة المقارنة: "سيلي" أكثر تشويقاً.

في الفيلمين، الدولة موجودة من أجل مواطنيها. حين يغادر الركاب الطائرة سالمين (سيلي) يشعر المتفرّج بقشعريرة: تمتلك أميركا أجوبة عن الأسئلة كلّها. يعود الربّان إلى الطائرة بعد "سقوطها" في النهر، بحثاً عما إذا كان قد بقي أحدٌ، كما في سفينة "تايتانيك"، وفيلم جيمس كاميرون عنها (1997). تقع الطائرة (سيلي)، وتنفجر القنبلة (ريتشارد جويل)، وينجو المواطنون. رسالة كلينت إيستوود: مهما تكن الاحتياطات التكنولوجية كبيرة للحصول على السلامة، فإنّ دور العامل البشري في ذلك حاسم.
المساهمون