08 يوليو 2019
كلمات عن الرواية
لم يُنظر إلى الرواية (لم تكن تسمّى هكذا) في الأوساط الثقافية العربية باعتبارها فناً رفيعاً يفخر كاتبه بنسبته إليه. لنتذكّر أن محمد حسين هيكل "رائد" الرواية العربية لم يسم عمله "زينب"، الذي أكسبه موقعه في تاريخ الإبداع العربي، رواية، بل سمّاها: مناظر وأخلاق ريفية! فلم يكن هذا المصطلح الأدبي (رواية) قد وُلد بعد على المستوى العربي. كان ذلك في الربع الأول من القرن العشرين، بل أكثر من ذلك: لم يمهر محمد حسين هيكل "زينب" باسمه. اختار اسماً متناسباً مع "المشاهد الريفية"، وقَّع به عمله الريادي ذاك: مصري فلاح. لكن بعدما أدرك أهمية ما قام به (باعتباره ريادة جنس أدبي) أعاد النظر في أمرين: التجنيس، فسمَّى "زينب" رواية، ووضع اسمه، بفخرٍ، على غلافها، ليحصر فضل الريادة باسمه الحقيقي، ويترك المصري الفلاح يعود إلى "غيطه". فلا مجال، على ما يبدو، لـ "المناظر الريفية" في جنسٍ أدبي سيكون عليه أن يخوض في شؤون المدينة وشجونها، باعتبار المدينة مسرح صراعات الأفكار والأجيال والطبقات على مستقبل بلادٍ كانت تخوض نضالين: مطلبي داخلي ووطني ضد الاستعمار.
أما لماذا لم تجد الرواية من يُعنى بها، على الرغم من اطلاع نخب ثقافية شامية ومصرية عليها من مصدرها الأوروبي، فذلك لأن مسرح التجديد والمواجهة بين القديم والجديد كان القصيدة. فحتى مطلع القرن العشرين، كانت الرواية تقع في خانة الترفيه والتسلية، وما ينشر منها متسلسلاً، في المجلات والصحف المتوزعة بين بيروت والقاهرة، كان ترجمةً لروايات أوروبية شهيرة. وكانت كلمة "رواية" مقتصرة، آنذاك، على المسرحيات، المترجمة، أو المقتبسة من أعمال أوروبية.
لم تتقدّم كتابة في المدونة الأدبية العربية، تاريخياً، على الشعر. فهذا هو "فن" العرب. وهو "اختصاصهم" و"عبقريتهم" الأدبية، كما ورد هذا اليقين الغريب في غير سفرٍ تراثي. وحتى الربع الأول من القرن العشرين، ظلت القصيدة هي النتاج الأدبي العربي الأهم والأكثر تداولاً، وهي التي ستنقسم عليها النخبة الثقافية بين مؤيدٍ للتجديد ومطالبٍ للحفاظ على الأصالة. من نيويورك وصولا إلى بيروت والقاهرة، كانت تيارات التغيير تجري في جسد هذه القصيدة المتكئة على عرشٍ من الذهب الخالص.. لكن المتحفي. ستحتاج الرواية إلى وقت طويل، وإلى بروز "درجة ثانية" من الكتابة الأدبية، لتحظى بـ "شرعية"، ويصبح الانتماء إليها لا يقل فخراً عن الانتماء إلى القصيدة.
ألم يكن عند العرب أجناس أدبية أخرى غير القصيدة؟ بلى. كانت هناك كتاباتٌ سرديةٌ قد تبدأ من الجاحظ وتنتهي بألف ليلة وليلة، مرورا بمكتبةٍ عامرة من قصص الشطار والعيّارين، والمقامات، والسير الشعبية، غير أن كل هذه الأجناس لم تكن من لوازم الخلفاء والأمراء والسلاطين، "رعاة" الإبداع. هذه أجناسٌ لا تناسب بلاط الحاكم ومجلسه، ولا يمكنها أن تزيح القصيدة من عرشها الذي لم يكن أقل شأناً من عرش الحاكم نفسه، بل ربما احتاجها الحاكم ليعزّز عرشه. منتجان اثنان للكلمة كان الحاكم بحاجة إليهما: الفقيه والشاعر. هذان هما ما يجعل للسلطة شرعيةً ويذيع صيتها. ولم تغلب الحكاية القصيدة إلا في "ألف ليلة وليلة"، عندما استطاعت الحكاية أن تلجم السيف، وأن تجعل السلطان يصغي. كان شهريار يسمع "شعرا"، يتخلل الحكايات المتناسلة بعضها من بعض، لكنه كان نظماً، غايته الوحيدة التأكيد على الحكاية ودعمها. هذه هي وظيفته.
فهل نحن الآن أمام "ألف ليلة وليلة" جديدة، حيث يتقدم السرد والقصّ والروي على الشعر، أو بالأحرى على القصيدة، لأن الشعر يمكن أن يُلتمس في الحجر الجلمود؟ ربما.
أما لماذا لم تجد الرواية من يُعنى بها، على الرغم من اطلاع نخب ثقافية شامية ومصرية عليها من مصدرها الأوروبي، فذلك لأن مسرح التجديد والمواجهة بين القديم والجديد كان القصيدة. فحتى مطلع القرن العشرين، كانت الرواية تقع في خانة الترفيه والتسلية، وما ينشر منها متسلسلاً، في المجلات والصحف المتوزعة بين بيروت والقاهرة، كان ترجمةً لروايات أوروبية شهيرة. وكانت كلمة "رواية" مقتصرة، آنذاك، على المسرحيات، المترجمة، أو المقتبسة من أعمال أوروبية.
لم تتقدّم كتابة في المدونة الأدبية العربية، تاريخياً، على الشعر. فهذا هو "فن" العرب. وهو "اختصاصهم" و"عبقريتهم" الأدبية، كما ورد هذا اليقين الغريب في غير سفرٍ تراثي. وحتى الربع الأول من القرن العشرين، ظلت القصيدة هي النتاج الأدبي العربي الأهم والأكثر تداولاً، وهي التي ستنقسم عليها النخبة الثقافية بين مؤيدٍ للتجديد ومطالبٍ للحفاظ على الأصالة. من نيويورك وصولا إلى بيروت والقاهرة، كانت تيارات التغيير تجري في جسد هذه القصيدة المتكئة على عرشٍ من الذهب الخالص.. لكن المتحفي. ستحتاج الرواية إلى وقت طويل، وإلى بروز "درجة ثانية" من الكتابة الأدبية، لتحظى بـ "شرعية"، ويصبح الانتماء إليها لا يقل فخراً عن الانتماء إلى القصيدة.
ألم يكن عند العرب أجناس أدبية أخرى غير القصيدة؟ بلى. كانت هناك كتاباتٌ سرديةٌ قد تبدأ من الجاحظ وتنتهي بألف ليلة وليلة، مرورا بمكتبةٍ عامرة من قصص الشطار والعيّارين، والمقامات، والسير الشعبية، غير أن كل هذه الأجناس لم تكن من لوازم الخلفاء والأمراء والسلاطين، "رعاة" الإبداع. هذه أجناسٌ لا تناسب بلاط الحاكم ومجلسه، ولا يمكنها أن تزيح القصيدة من عرشها الذي لم يكن أقل شأناً من عرش الحاكم نفسه، بل ربما احتاجها الحاكم ليعزّز عرشه. منتجان اثنان للكلمة كان الحاكم بحاجة إليهما: الفقيه والشاعر. هذان هما ما يجعل للسلطة شرعيةً ويذيع صيتها. ولم تغلب الحكاية القصيدة إلا في "ألف ليلة وليلة"، عندما استطاعت الحكاية أن تلجم السيف، وأن تجعل السلطان يصغي. كان شهريار يسمع "شعرا"، يتخلل الحكايات المتناسلة بعضها من بعض، لكنه كان نظماً، غايته الوحيدة التأكيد على الحكاية ودعمها. هذه هي وظيفته.
فهل نحن الآن أمام "ألف ليلة وليلة" جديدة، حيث يتقدم السرد والقصّ والروي على الشعر، أو بالأحرى على القصيدة، لأن الشعر يمكن أن يُلتمس في الحجر الجلمود؟ ربما.