ذلك الأندرياس
نتلاقى بلا ترتيب مرّةً أو مرّتَين في السنة
أمسِ فقط لمحني في السوبرماركت أنتقي الطماطم
ومن جديد سأل عن ابنتي الكبرى.
- صبيٌ يا أندرياس، هو طالب الآن.
- نعم، بالطبع.
لحظة صمت.
- هل هو بخير؟
- على ما يرام.
كلُّ مرّةٍ نفْس الحديث المُختَصَر
من فوق بقالة فاسدة
على باب حلاقنا جَزّاز الأسامي
أو دكّان إصلاح واستبدال الأطراف
في طوابير العاطلين القاحلين
وعلى أرصفة المتقلّصين
خنادق المدينة
- مِلْ إلى الأمام يا أندرياس، لا، لا تنحنِ
فقط مِلْ إلى الأمام.
غريبٌ كيف يستطيع واحدٌ
أن يُخطِئ في تَذَكّر الشيء نفسه كل مرّة
مع أنه يحاول أن يداري خطأه بمهارة لائذاً بعربة المشتريات.
أبذل قُصارى جَهدي لتحاشيه
لكنه مُصمّم أن يشاركني الحَرَج.
مَن لا يصفّق لتلك المقدرة!
ذات يوم أَسقَطَ رأسه
وجرينا لنلتقط الرأس
إلى أسفل المُنحَدَر.
حين دفعتُ للناشر التالي
لكي يُصدِر كتابي السادس
أرسلتُ نسخةً إلى عنوان مجهول
وأنا متأكّد أنه سيستلمها.
بعد سنين تلاقينا من جديد
في المراحيض العامّة
ندفع لكي نتبوّل.
"قل لي كيف حال ابنتك؟
كم أحببت قصيدتك عن ذلك الرجل.
لا يُصَدَّق ذلك الرجل!
من يكون؟"
■ ■ ■
رنّة ألفاظهم
(إلى أورستيس)
أتذكّر أوّل مرّةٍ لي في المدرسة
وكيف بكيتُ سرّاً
حين سحَبتْ أمّي يدها
لتربت على ظهري
كفٌّ من حديد.
الآن أفكّر
أن ما أخافني لم يكن المدرّسين
ولا المُمتَحِنين
ولا أندادي غير المألوفين.
ما أرعبني هو الدورة القارسة لكلّ ما يعرفونه.
ألفاظهم
قاسية، مُصمتة، خالية من الحب
كقشرة الجوزة بعد كسرها
بينما كلمات أمي
معجونة في بعضها بالحنان.
لذلك الآن
وأنا أستشعر نفْس الخوف في ابني
كل صباح أعطيه كلماتٍ
كلمات حب
ليأخذها معه
يتشبّث بها
حين تحاصره
رنّة ألفاظهم الأجنبية.
■ ■ ■
كتاب خوسيه ساراماغو البني
أقرأ كتاباً بُنيّاً.
المؤلّف ميت
المترجم ميت
البطل الرئيسي انتحر.
أنا ما زلت حيّاً.
جالساً على انحدارة قمر لم يُغَنَّ
أشرب بيرة شقراء.
مَن قال إن الموت
لا يُقهَر؟
■ ■ ■
سراب باريسي
موكب في باريس؛ شيء غير متوقَّع بالمرّة.
كنّا متّجهين إلى نوتردام.
وإذا بحاملي رِمَاح في زي أحمر وذهبي؛
روث خيلٍ على قارعة الطريق.
ثنائيات غرامية تتبادل القُبَل.
"لا سين"، إقرار مبذول بكل ذلك.
السيّاح يبحثون عن المكان الصحيح.
تذكارات وصفوف عجيبة من الفضوليّين.
ستدقّ الأجراس عما قريب
وحسب الجدول المقرَّر
سيؤدّي "كواسيمودو" وثبةً في الفضاء
يتبعها تصفيق حاد.
■ ■ ■
حبل سلّم
تقفز بعرض السرير
منهكةً
لست متأكّداً حتى من أنها تتنفّس.
جوارها
ابني
متدثّر في خُضرة أشجار الليل.
سينبسط من أعلى
حبل السلّم السرّي للقمر
لأرتقيه وحيداً من جديد.
وحين تصحو
ستنتبه إلى الحبل العالق
فتطويه بعناية
وتحفظه في الدرْج
تماماً كما تفعل مع عجائب أخرى كثيرة
تُطلِقها السماء
بين حين وآخر.
■ ■ ■
أعمال عارضة
(إلى ثيودورس)
ابني
يشتغل في المعادن
يعود إلى البيت بجروح وكشوط
يعمل نادلاً
ومن أجل البقشيش
تُذويه النظرات
ابني ساعٍ يؤدّي مهاماً وضيعة
تموت الشمس بداخله
ابني يحصد أشجار زيتون
يداه سوداوان من المرارة
إنه ولد طيب هذا الابن
وسيم
والجميع يحبّونه
أحياناً يُدعى إلى وظائف أخرى
أحياناً
تدعوه
السماء
ليعمل ملاكاً
يرفع المصابين.
■ ■ ■
عدد مُهتز
تقول البرقية:
نتيجة إطلاق عبوة ناسفة في العراق
ثمانون لقوا مصرعهم بالتقريب.
بالتأكيد هناك بضعة لم يَعدّوهم
بالتأكيد هناك من لم يتأكّدوا من حالهم.
بالتقريب موتى
أم بالتقريب أحياء؟
بدا الرقم مناسباً بالتأكيد.
في المدرسة حين يتعلّم التلاميذ العدد
يتعلّمون: واحد زائد واحد يساوي اثنين
اثنان زائد اثنين يساوي أربعة.
في المدرسة لا يتعلّم التلاميذ
أن شيئاً يساوي شيئاً بالتقريب.
إنهم لا يتعلّمون
النسبية المهتزّة
لرياضيات الحروب.
■ ■ ■
حقيبة الكمان
الآلات الموسيقية ليست سوى حاجتنا
أن نسمع شيئاً آخر غير أصواتنا الغبية.
لكنك عبر صوت الكمان
تُلمّ بمعنى الصمت
والموت.
ينبغي لعازفي الكمان أن يكونوا أقزاماً
بحيث يمكننا، حين يموتون، أن ندفنهم في حقائب آلاتهم.
■ ■ ■
الغناء
يحمل جسدي
غبار الطريق الذي عبرتِه.
تتحمّل قدماي
عبء تعبكِ.
قبل أن يكون لكِ وجود بزمن طويل
كان بابي شاخصاً في انتظاركِ.
ذلك النجار المجهول الذي صاغه - كان يغنّي!
■ ■ ■
حكايات تفهمها لاحقاً جدّاً
كلّ ظُهر في ساحة انتظار سيارات العمارة
كان الضابط ملتهباً بالغضب يطاردنا
في سرواله القصير
وكذلك صاحب البستان.
الأوّل يلعننا لأننا لعبنا الكرة
فأفسدنا قيلولته.
كان يحضر عصاً خشبية ويسرع إلى أسفل
ليبرحنا ضرباً.
الثاني يعوي بأصوات غير مفهومة
وحش
واثق من أنه سيقبض علينا
متلبّسين بسرقة الفاكهة من أشجاره.
لكنّنا كنّا أكثر غضباً منهما
وأسرع.
ستمرّ سنوات قبل
أن أشكّ
في أنهم لم يكرهونها نحن
بقدر ما كرهوا ضحكاتنا
وأن
السلطة والمال
لا حبّ لديهما للأطفال.
* ولد يورغوس خريستودوليدس (Γιώργος Χριστοδουλίδης) في موسكو لأبوَين يونانيَّين من قبرص؛ حيث نشأ في لارناكا قبل أن يعود إلى موسكو ليحصل على شهادة الماجستير في الصحافة من "جامعة لومونوسوف". له خمس مجموعات شعرية: "إينيا" (1996)، و"طاحونة الأحلام" (2001)، و"دليل المزارع" (2004)، و"اللامتحقّق" (2010)، و"طريق بين السماء والأرض" (2013). نُشرت المجموعات الأربع الأخيرة في أثينا. حاز كريتستودوليدز جوائز عدّة وتُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات. وحالياً، يعمل صحافياً في نيكوسيا.
** ترجمة يوسف رخا