كتابة في لجة الشك
أمضيت ثلاث ساعات من إجازة نهاية العام المنصرم في قراءة مسودة كتاب جديد، أصرّ مؤلفه على أخذ رأيي فيه، قبل نشره. الكتاب رواية، وكنت توقفت، مؤقتاً، عن قراءة الروايات، بعد أن أصبت، كما يبدو، بتخمةٍ مما قرأته منها في السنوات الثلاث الأخيرة، فقرّرت أن أبتعد قليلاً عنها لصالح قراءاتي الأخرى التي أهملت معظمها، تحت وطأة السيل العام الذي أخذنا في جريانه منذ سنوات. صحيح أن بعض الأسماء الروائية ما زالت تجبرني إجباراً لذيذاً على متابعة جديدها، ولكني لم أعد تلك القارئة المخلصة لها، كما كنت في السابق.
أنهيت ساعاتي الثلاث في القراءة، ولم أنته من رواية الكاتب المنتظر رأيي، كما قال لي، بل توقفت عند منتصفها تقريباً، بعد أن عاودتني أعراض التخمة الروائية، وعسر الهضم القرائي، فقرّرت ألا أستمر، حتى لا تزداد الأعراض، ويصعب العلاج.
في الصفحات الأولى، اختلطت علي الشخصيات ذات الملامح المتشابهة والحوارات التي بدت لي كأنها تخرج من فمٍ واحد، فلم أعد أعرف إلى أين تتجه الأحداث. ومع هذا، كنت أجاهد نفسي كي أستمر، لسببين فقط كانا يجبراني على معاندة رغبتي الحقيقية بالتوقف الفوري. أولهما أنني وعدت الكاتب المهذّب بالقراءة فعلاً، وبإبداء رأيي في روايته الأولى. والثاني اللغة الرفيعة التي كتبت بها هذه الرواية، ما جعلني أستخسرها في سياق النسيج الروائي المهلهل، وأتساءل عن السبب الذي يجعل من كاتب محظوظ بامتلاك موهبة لغوية كهذه يفرط بها في سبيل كتابة رواية متواضعة.
من الواضح لي، الآن، تماماً أنني أمام شاعر ضلّ طريقه إلى عالم الرواية، أو لعله، بإرادته الحرة، كما سيتضح لي، لاحقاً، ترك الشعر الذي يجيده ويحبه إلى الرواية التي لا يجيدها، ولا يحبها، لكنه أقدم عليها بكل هذه الجرأة والحماسة، فقط ليكون على "الموضة".
في ثلاثة معارض للكتب، قدّر لي أن أشهد أيامها في الشهور الثلاثة الماضية، الشارقة والكويت وجدة، كنت ألتقي بكتابٍ شباب جدد، وكلهم تقريباً ولجوا عالم النشر من بوابة الرواية، وإلى عالم الرواية من بوابة النجومية والشهرة والجوائز التي أضاءت على الروايات في العقدين الأخيرين في عالم الكتابة العربية.
لم أقرأ بعد روايات هؤلاء الشباب التي احتلت رفيّن كبيرين من رفوف مكتبتي، لكنني تصفحت بعضها تصفحاً سريعاً، أتاح لي الحكم باطمئنان على رداءة مستوى معظمها.
عندما قرّرت أن أصارح الشاب، الذي طلب مني رأيي بإلحاح، بأن روايته التي توقفت عند منتصفها لم تعجبني إطلاقا، وأنني أرى أنه لا يعرف ما هي الرواية، ما دام غير قادر على رسم ملامح شخصياته، حتى ظهرت بهذا الشكل الموحد، وكأنه طبعها نسخاً من صورة واحدة. كنت شبه متأكدة أن كلامي لن يعجبه، وأنه، مثل كثيرين سبقوه، سيردد، إن لم يكن أمامي فمن ورائي، عباراتٍ عن عدم تشجيع الشباب، وعن الإحباط الذين يقابلون به من قبل من سبقهم الى عالم الكتابة والنشر، وربما تأخذه الحماسة، كما أخذت بعضهم، فيتحدث عن الغيرة التي يشعر بها "القدماء" من الشباب، أو عن "التخلف" الذي يعيشه هؤلاء القدماء، بعيداً عمّا اكتشفه الشباب من سياقات إبداعية جديدة. ولن أعترض، لو أن الشاب اختار أياً من ردود الفعل تلك، فأنا على الأقل معتادة على تلقيها، وعلى التعامل معها بسلام، لكن الشاب فاجأني، وتقبل ما قلته عن روايته المهلهلة برحابة صدر نادرة. وابتسامة ودود ألحقها بسؤاله: كيف أصلحها؟
داريْت عجزي عن النصيحة الفورية، على هذا الصعيد، بكلام نظري عن الشخصيات والحوارات والسرد وأشياء أخرى كثيرة، قبل أن أسأله عن سبب إصراره على الكتابة الروائية، وهو لا يحبها، ولا يحب حتى قراءة الروايات، كما أخبرني، فقال: لأنني صدقتك عندما كتبت في "تويتر" أن الكتابة هي الحل... ثم مضى، وتركني في لجة الشك.