كاسترو والثورة التي لم تكتمل

06 ديسمبر 2016
+ الخط -
رحل الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو، بعد عقود من الحضور النضالي والسياسي والرمزي، كان فيها فاعلاً بارزاً ترك بصمته على امتداد الحرب الباردة بين المعسكرين، الغربي والشرقي، في النصف الثاني من القرن المنصرم، حيث تحولت كوبا إلى رقم تقليدي في معادلات هذه الحرب، عبر الاصطفاف في مواجهة الإمبريالية والاستعمار ومساندة المعسكر الشرقي ودعم حركات التحرّر الوطني. واستطاعت، في أحيانٍ كثيرة، أن تتجاوز مساحتها الجغرافية الصغيرة نحو لعب أدوارٍ لا يستهان بها خلال منعرجات هذه الحرب وتحولاتها، لا سيما خلال أزمة خليج الخنازير عام 1962 التي كادت أن تؤدي إلى حربٍ نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي البائد.
يندرج الإرث السياسي لكاسترو فيما يُعرف بالديكتاتوريات الثورية التي تطعم الناسَ وتضمن الحد الأدنى من جودة التعليم، وتعمل على تعميم التغطية الصحية والرعاية الاجتماعية. لكنها، في المقابل، تكمم أفواههم وتصادر حقوقهم وحرياتهم وتقمع حرية الرأي، وتضع يدها على الاقتصاد والثقافة والمجتمع المدني بشكل كامل، ولا تتورّع عن ملء سجونها بمعارضيها والتنكيل بهم أو دفعهم إلى الفرار بحثا عن المنافي. ضمن هذه المفارقة، يمكن فهم الاستقطاب الذي تجدّد، أخيراً، عقب الإعلان عن وفاة الزعيم الكوبي، فشرائح واسعة في كوبا وأميركا اللاتينية والعالم لا تزال تعتبره أيقونةً ثوريةً وإنسانيةً، بالنظر لإنجازاته الثورية والاجتماعية، خصوصاً فيما له صلة بالتعليم والصحة والإصلاح الزراعي، وعدم تفريطه في القطاع العام،
وانحيازه للفقراء، ووقوفه ضد جشع الرأسمالية وامتداداتها. لكن، في المقابل، يستدعي معارضوه، وهم كُثر أيضا، مؤشراتٍ لا تقل أهمية للتدليل على إخفاق الكاستروية (Castrismo)، أبرزها استبداده برأيه وقناعاته السياسية، وتنكيله بمعارضيه والزجّ بهم في السجون والمعتقلات، وارتفاع معدّل التضخم، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ عقود، وتقادم البنية التحتية، وتزايد معدلات الفقر والبطالة، وعزلة كوبا على الصعيد الدولي.
استطاع كاسترو، منذ البدايات الأولى لحكمه، أن يوجد ما يمكن تسميتها الحالة الكوبية التي انطوت على مفارقاتٍ دالة، أبرزها إقامة نظام شيوعي معاد للإمبريالية والاستعمار على بعد عشرات الكيلومترات من شواطئ الولايات المتحدة. وبذلك، أصبح أحد رموز الحرب الباردة الأكثر شعبيةً، لا سيما بعد أن صار الحصار الأميركي على كوبا أحد العناوين البارزة لهذه الحرب. كما أنه لم يألُ جهدا في استثمار الرصيد الرمزي للثورة في هذا السياق، فتحوّل إلى أحد أكبر داعمي أحزاب اليسار الراديكالي وحركات التحرّر الوطني، فساند حكومة الوحدة الشعبية في تشيلي، بزعامة سالفادور أليندي، بين عامي 1970 و1973، والحركةَ الشعبيةَ لتحرير أنغولا إبّان الحرب الأهلية بين عامي 1975و1980، والحركة الساندينية في نيكاراغوا خلال الثمانينيات، غير أنه أخفق في التقدير الموضوعي لسياق حركات أخرى حظيت بدعمه ومساندته (بوليساريو مثلاً).
في الصدد نفسه، شكلت علاقة الثورة الكوبية بالمثقفين إحدى هذه المفارقات، فعلى امتداد الستينيات، لم تتوقف هذه الثورة عن تغذية أحلام هؤلاء بتطلعاتها وطموحاتها الاجتماعية والثورية الحالمة، وتحوّلت هافانا إلى قبلةٍ استقطبت شرائح واسعة من مثقفي اليسار. لكن ما حدث للشاعر الكوبي إيبيرطو بادييّا سيشكل نقطة تحوّل مفصلية في علاقة نظام كاسترو بالمثقفين، سواء في أميركا اللاتينية أو الغرب. نشر بادييّا عام 1968 كتابه ''حالة شرود''، تضمن انتقادا لسياسة الحكم في هافانا، الأمر الذي أثار غضب السلطات التي اعتقلته ضمن موجة اعتقالاتٍ امتدت إلى كتّاب آخرين. وفي ظل الحرب الدعائية التي تعرّض لها بادييّا ورفاقه، سيعلن الأخير في عام 1971 تبرُّأه وندمه على ما كتبه في حق الثورة. كان واضحاً أنه تعرّض لضغوطٍ من النظام دفعته إلى إعلان ''توبته'' التي تحولت إلى جرح نفسي عميق لازمه حتى مماته عام 2000. على إثر ذلك، أقدم كتّاب (سارتر، سيمون دي بوفوار، غويتسولو، فارغاس يوسّا..) على كتابة رسالة إلى كاسترو (رفض غارثيا ماركيز التوقيع عليها)، عبروا فيها عن خجلهم وغضبهم مما حدث لبادييَّا ورفاقه، غير أن كاسترو ظل على قناعاته، معتبرا أن عدم انخراط مثقفي كوبا في الدفاع عن قيم الثورة ومبادئها وتطلعاتها يصب في مصلحة الثورة المضادة التي تدعمها الإمبريالية الأميركية، فزادت الهوة اتساعا بين السلطة وهؤلاء الذين اختار عدد كبير منهم المنفى، مع استمرار هيمنتها على الثقافة والإعلام والتعليم.
في عام 2006، تنازل كاسترو عن السلطة لشقيقه الأصغر راؤول، لكنه ظل حاضراً برؤيته وأفكاره الوثوقية التي حكمت كوبا في السياسة والاقتصاد والثقافة. وقد أبدى الرجل، غير مرة، مخاوفه من أن تُفضي الإجراءات الإصلاحية المحتشمة التي انخرط فيها شقيقه، خلال الأعوام الأخيرة، إلى تكرار ما حدث في بلدان المعسكر الشرقي في كوبا، فلا هي نجحت في إنجاز تحوّل سلسٍ نحو الرأسمالية، ولا هي احتفظت بمقومات النظام الاشتراكي.
من المؤكد أن المتغيرات الثقافية والسياسية العميقة التي عرفها العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، أفضت، بشكل أو بآخر، إلى إعادة قراءة التجربة الكوبية، بعيدا عن سلطة الإيديولوجيا والرومانسية الثورية، فالثورات الناجحة اليوم لا تكتمل من دون مزاوجة خلاقة بين تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية من ناحية، وإقرار حرية وكرامة الإنسان واحترام الرأي المعارض والاحتكام إلى الديمقراطية، من ناحية أخرى.