18 فبراير 2017
كاريكاتور اسمه "الدولة الريعية" في الخليج
لؤي اللاركيا
باحث سعودي وأستاذ في العلوم السياسية المقارنة ومحاضر في جامعة هيوستن الأميركية.
شكلت صياغة الباحث الإيراني حسين مهدوي مصطلح الدولة الريعية نقلة نوعية في فهم اقتصاديات الدول التي تعتمد على النفط مصدراً أساسياً للدخل. وقد حدّد الاقتصادي المصري حازم الببلاوي في بحثه "الدولة الريعية في العالم العربي" عدة خصائص للدولة الريعية، وهي اعتماد الدولة على الريع الخارجي، والذي يعني عدم حاجة الدولة إلى تطوير قطاع إنتاجي. وتكون الشريحة السكانية المولدة للريع صغيرة ومحدودة، وفي المقابل، تكون الشريحة التي توزع الريع وتستغله هي الغالبية من السكان. وأخيراً، الحكومة هي المستفيد الأساسي والمهيمن على الريع الخارجي. تشكّلت، إثر هذه النظرية، تعميمات نظرية عن دول الخليج، حولتها إلى ما يشبه الكاريكاتور المبتذل، فأصبحت هذه الدول أنظمةً تتحكم بريع نفطي هائل، تستخدمه للحفاظ على عقد اجتماعي، يعتمد بالأساس على توزيع الريع النفطي على الشعوب، من خلال دولة رفاهية ضخمة، مقابل إحجام هذه الشعوب عن المطالبة بالمشاركة الجدّية في صنع القرار السياسي، أو أي نوع من المشاركة السياسية الجدية. على الرغم من أن هذه النظرية تحتمل درجةً من الصواب، إلا أنها تخفي مستوىً أعمق من التعقيد الذي يميز الهيكل الاجتماعي والاقتصادي لدول الخليج. ويؤدي ذلك إلى انحسار تحليل مجريات أحداثٍ، مثل الانخفاض الحاد في أسعار النفط على انفراط العقد، هذا العقد الاجتماعي الآنف ذكره، على دولة الرفاه فحسب، من دون النظر، مثلاً، إلى أثر هذه الأحداث على القطاع الخاص. ويؤدي هذا التبسيط النظري أيضاً إلى فهمٍ سطحي لطبيعة التغيرات والصراعات الاجتماعية والسياسية في الخليج العربي، وحصر تأثيرها على كتلةٍ واحدةٍ متجانسةٍ، اسمها "الشعب" في الخليج.
يمكن القول إن من الخطأ الاعتماد كلياً على تحليل أثر التغيرات في أسعار النفط على مستوى دولة الرفاهية في الخليج العربي، لأن ذلك يفترض أن التأثير الوحيد للريع النفطي مرتبط
بمستوى الخدمات والبدلات التي تقدمها الدول الخليجية بشكل كبير لمنتسبي القطاع العام، والذين يشكلون السواد العام من المواطنين في تلك الدول. إلا أن الواقع هو أن القطاع الخاص في تلك الدول يعتمد أيضاً، وبشكل كبير، على الريع النفطي، وعلى الحكومة بشكل كبير. يعود ذلك، حسب باحثين عديدين، إلى أن النخبة التجارية، أو نخبة رجال الأعمال، في الخليج العربي، تطورت، في بدايات النشوء الفعلي للدولة الخليجية في الستينات والسبعينات، طبقة كومبرادورية إلى حد كبير، أي أنها غالباً ما كانت تلعب دور الطبقة الوسيطة لشركاتٍ أجنبية، كانت تقدم معظم السلع والخدمات الفعلية للاقتصاديات الخليجية التي كانت تشهد نمواً متسارعاً في تلك الحقبة. وقد ارتبطت تلك الخدمات والسلع بعقود ومناقصات حكومية ارتبطت بنمو اقتصادي غذّته الحكومات الخليجية بالريع المتولد من بيع النفط.
وعلى الرغم من أن ارتباط القطاع الخاص بالحكومات الخليجية قد تقلص اليوم نسبياً، مقارنة بحقبة السبعينات والستينات، إلا أن أحد الآثار التي تولدت من هذه العلاقة استمرار سيطرة أطراف وعوائل محدّدة على مفاصل القطاع الخاص، وخصوصاً عن طريق المناقصات الحكومية. ويعني ذلك أنه، في حالة انخفاض أسعار النفط، أو محاولة الحكومة للقيام بأي إصلاح جدي للهيكل الاقتصادي الريعي، فإن التنافر لن يكون أفقياً فحسب بين الحكومة والمواطنين الذين سيعانون من انخفاض الخدمات والمميزات المرتبطة بدولة الرفاه والتوظيف في القطاع العام، بل سينتج أيضاً تنافراً أفقياً من نوع آخر بين الحكومة والقطاع الخاص، في حال قرّرت الحكومة كسر احتكار الشركات المهيمنة على القطاع الخاص. وفي حال فرضت الحكومة على هذه الشركات آليةً لاستيعاب المواطنين الذين سيتم تسريحهم من القطاع الخاص، وهي مسألة ستكون جدليةً، نظراً لأن القطاع الخاص في الدول الخليجية لطالما فضل توظيف الأجانب، لأسباب يطول التفصيل فيها. ناهيك عن التنافر العرضي الذي سينتج بين المواطنين والقطاع الخاص نتيجة للديناميكية نفسها. وقد ينتج التنافر أيضاً نتيجة عدم مقدرة الحكومة على دفع مستحقات الشركات الخاصة التي تشرف على مشروعات حكومية ضخمة، مع تعطل هذه المشاريع، نتيجة انخفاض أسعار البترول.
وثمة مسألة أخرى يتم تجاهلها، هي أن المجتمعات الخليجية أكثر تنوعاً من ثنائية السنة مقابل
الشيعة التقليدية، فالتنوع في المجتمع الخليجي لا يقتصر على الانتماء الطائفي، بل يتعداه إلى تنوع ثقافي ومناطقي. ويمكن القول إن التنوع الاجتماعي في الخليج العربي ينبع من الانتماء الطائفي، وأنماط الهجرة والتوطين البدوية مقابل الحضرية، ومن قوانين الجنسية. وما يزيد المسألة تعقيداً أن هذه العوامل تتقاطع مع ديناميكية علاقة هذه المجموعات الاجتماعية مع العائلة المالكة خلال حقبة بناء الدولة وتطورها في مراحل لاحقة، ومع واقع التفاوت الاقتصادي الناجم عن سيطرة بعض هذه المجموعات على القطاع الخاص، من دون المجموعات الأخرى. ويؤدي ذلك إلى تفاوت في أثر انفراط العقد الاجتماعي بين المجموعات الأكثر عرضةً لتفكك أواصر هذا العقد مقابل المجموعات الأقل تأثراً، نظراً لقربها من السلطة.
يشير ذلك كله إلى الحاجة لتحليل أكثر دقةً وتمعناً للديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الخليج، والعوامل التي قد تولد عدم الاستقرار فيها، بدلاً من الاعتماد على تحليل مبسط يعتمد على فهم محدود ومبسط، عفا عليه الزمن، لنظرية الدولة الريعية. خصوصاً وأن العلاقة بين الريع النفطي والمخرجات السياسية مركّبة، تخضع لمجموعة من العوامل المختلفة، والمتناقضة أحياناً، كما يوضح مايكل هيرب في كتابه "أجور النفط".
يمكن القول إن من الخطأ الاعتماد كلياً على تحليل أثر التغيرات في أسعار النفط على مستوى دولة الرفاهية في الخليج العربي، لأن ذلك يفترض أن التأثير الوحيد للريع النفطي مرتبط
وعلى الرغم من أن ارتباط القطاع الخاص بالحكومات الخليجية قد تقلص اليوم نسبياً، مقارنة بحقبة السبعينات والستينات، إلا أن أحد الآثار التي تولدت من هذه العلاقة استمرار سيطرة أطراف وعوائل محدّدة على مفاصل القطاع الخاص، وخصوصاً عن طريق المناقصات الحكومية. ويعني ذلك أنه، في حالة انخفاض أسعار النفط، أو محاولة الحكومة للقيام بأي إصلاح جدي للهيكل الاقتصادي الريعي، فإن التنافر لن يكون أفقياً فحسب بين الحكومة والمواطنين الذين سيعانون من انخفاض الخدمات والمميزات المرتبطة بدولة الرفاه والتوظيف في القطاع العام، بل سينتج أيضاً تنافراً أفقياً من نوع آخر بين الحكومة والقطاع الخاص، في حال قرّرت الحكومة كسر احتكار الشركات المهيمنة على القطاع الخاص. وفي حال فرضت الحكومة على هذه الشركات آليةً لاستيعاب المواطنين الذين سيتم تسريحهم من القطاع الخاص، وهي مسألة ستكون جدليةً، نظراً لأن القطاع الخاص في الدول الخليجية لطالما فضل توظيف الأجانب، لأسباب يطول التفصيل فيها. ناهيك عن التنافر العرضي الذي سينتج بين المواطنين والقطاع الخاص نتيجة للديناميكية نفسها. وقد ينتج التنافر أيضاً نتيجة عدم مقدرة الحكومة على دفع مستحقات الشركات الخاصة التي تشرف على مشروعات حكومية ضخمة، مع تعطل هذه المشاريع، نتيجة انخفاض أسعار البترول.
وثمة مسألة أخرى يتم تجاهلها، هي أن المجتمعات الخليجية أكثر تنوعاً من ثنائية السنة مقابل
يشير ذلك كله إلى الحاجة لتحليل أكثر دقةً وتمعناً للديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الخليج، والعوامل التي قد تولد عدم الاستقرار فيها، بدلاً من الاعتماد على تحليل مبسط يعتمد على فهم محدود ومبسط، عفا عليه الزمن، لنظرية الدولة الريعية. خصوصاً وأن العلاقة بين الريع النفطي والمخرجات السياسية مركّبة، تخضع لمجموعة من العوامل المختلفة، والمتناقضة أحياناً، كما يوضح مايكل هيرب في كتابه "أجور النفط".
لؤي اللاركيا
باحث سعودي وأستاذ في العلوم السياسية المقارنة ومحاضر في جامعة هيوستن الأميركية.
لؤي اللاركيا
مقالات أخرى
07 ديسمبر 2016