كارلوس زافون... عودة القرّاء إلى طفولاتهم

26 يونيو 2020
(كارلوس زافون في واشنطن، 2016، تصوير: مارفن جوزيف)
+ الخط -

يتبادل القارئ وشخصيات أعمال الروائي الإسباني كارلوس زافون (1964 - 2020)، الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي في لوس أنجليس بالولايات المتّحدة، قراءة مئات الكتب. هكذا تظهر الصورة من أعلى؛ قارئ يقرأ روايةً تقرأ شخصيّاتها كتباً أُخرى. لا تكتفي هذه الشخصيات بالقراءة، بل تبحث في سراديب مظلمة ومتخيّلة عن كتب في مجموعة روائية رباعية حملت عنوان "مقبرة الكتب المنسية".

ظهرت مسحات من آثار أعمال كلّ من الفرنسي جول فيرن والأميركي ستيفن كينغ والإنكليزي تشارلز ديكينز في معظم أعماله التي اتّسمت بكونها مفرطة الإثارة تحلّق في عوالم قوطية شديدة الظلمة، لكن صاحب "ظلّ الريح" (2001) أضاف إلى أعماله منظوراً حقيقياً جديداً لليافعين، ذلك المنظور الذي يجعل طفلاً في الثانية عشرة يستمتع أكثر بالتعرُّف بقوّة على شخصية من شخصيات العمل.

لا تتوقّف هذه النظرة التي تتعلّق بأعمار القرّاء هنا، بل ستُعيد هذه الروايات القرّاءَ الكبار مرّةً أُخرى إلى طفولاتهم، ربما لتذكيرهم بنقطة الإدراك التي يعاني منها جميع الأطفال في نهاية المطاف: "أنّ الحياة لها جانب أكثر قتامة". لكنه كان حريصاً على عدم جعل كُتُبه مخيفةً للغاية: "لا مشكلة في التوتّرات الشديدة في النص"، لكنه لم يرغب في ترك أيّ من قرّائه الصغار في صدمة ناتجة عن قسوة بعض مشاهدها. لكن روايته "أمير الضباب" (1993) احتوت أصلاً على طبقات من المعنى التي يقترحها قد تجعلها في الواقع قراءة تحمل مضامين أكثر شروراً للبالغين، وبعض إشارات شيطانية من المرجّح أن يتم تمييزها فقط من قبل القرّاء الأكثر نُضجاً.

ظهرت "القتامة القوطية" في جميع أعمال صاحب "لعبة الملاك" (2008)، يقول هنا: "الظلام يعمل بشكل أفضل، عندما تبدأ بكتابته"، مع الكثير من الحرص على مواصلة استدعاء أسطورة الظلام الأوروبية "فاوست" في مجمل الأعمال كمحرّك أساسي للحبكة، وكاستعارة مثالية على الجوانب المظلمة للوجود البشري.

بدأ صاحب "متاهة الأرواح" (2016) باستكشاف عوالم الكتب العتيقة ومدينة برشلونة والعداء الموروث من الحرب الأهلية الإسبانية، وتحديداً فترة الديكتاتور فرانكو في رواياته، على الأرجح في أواخر التسعينيات، يقول: "أعتقد أنه جاء من شيء كنتُ أُدركه في ذلك الوقت، وهو خطر انمحاء الذاكرة والتاريخ. لطالما اعتقدتُ أنّ ما نتذكّره يحيطه الخطر، وكلّما قلنا: تذكّرنا؛ تناقص ما نتذكّره".

يظهر أثر مدينته برشلونة واضحاً تماماً في أعماله؛ مدينة قديمة تشعر فيها بثقل التاريخ؛ التاريخ يلاحقها أينما ذهبت، لكن برشلونه مدينته، التي غادرها إلى الولايات المتّحدة، لوس أنجليس تحديداً، لم تنجُ هي الأُخرى من مفارقة الشعور بأنّه لم يعد مرحّباً به فيها كثيراً، نظراً إلى قلّة ظهوره وتجنّبه الدائم للظهور في المناسبات العامة، إلّا أنّ هذا الشعور لم يمنعه من مواصلة النبش في دهاليز تاريخها المكتوب والمرئي على شكل القصور القديمة والأبراج التي أثارت لديه رغبة في المحاكاة والتناول في الرواية.

أمّا لوس أنجليس، فيقول عنها: ''لا يمكنك المشي هناك دون إدراكه (التاريخ القديم) في لوس أنجليس، الأمر على العكس تماماً: إنها مدينة أقدم ممّا قد تبدو عليه، لكنك لا تدرك ذلك - كل يوم تخرج من منزلك، أنت تذهب إلى مكان ما وأحياناً تحصل على هذا الانطباع الذي يجعلك تحسّ بأنّ كل شيء تمّ وضعه هناك في الليلة السابقة. المحو المستمرّ للتاريخ هو شيء في طبيعة المكان، عندما تأتي من مكان قديم جدّاً كبرشلونة، تجد لوس أنجلوس أمراً صادماً للغاية".

تشير بعض المشاهد في كتبه إلى استكشافات في أعمال الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وتحديداً في موضوعات المكتبات، وبنية المتاهة ودراسة أرتورو ريفيرتي للنص الفائق في أعمال مثل "نادي دوماس"، على الرغم من أن زافون يستخدم بعض الاستعارات المعقّدة لتركيب أسلوب ميلودرامي خاص، إلّا أنّ لغته اتّسمت بالوضوح في الغالب وظهرت متاحةً لجميع القرّاء على عكس بورخيس وريفيرتي.

يُحيل صاحب "مارينا" (1999) المشهدية العالية في أعماله إلى أنه "يكتب وكأنه يصنع فيلماً، على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي مرحلة ما قبل الإنتاج، حيث تقوم بإنشاء خريطة لما ستفعله، على الرغم من أنك غالباً ما ينتهي بك الأمر إلى تغييرها كلّها. ثم لديك مرحلة التصوير حيث تجمع كل العناصر لتكوين الفيلم. ولكن خلال هذه المرحلة، غالباً ما تتعمّق أكثر وأكثر في القصّة، أكثر ممّا كنت تتوقّع، وعليك أن تُغيّر كثيراً. ثمّ المرحلة النهائية وهي جعل كل شيء يبدو طبيعياً، وهذا هو الجزء الذي يأخذ معظم العمل".

يقول في إحدى مقابلاته: ''أدركت أنّني كنتُ دائماً أكتب أشياء يريدني الآخرون أن أكتبها، وليس ما كنتُ أرغب حقّاً في كتابته. لذلك شعرت أنني أفقد طريقي. اجتمعت كلُّ هذه الأشياء في فكرة المكان الذي كان مهمّاً بالنسبة إليّ، تبلور في ذهني: كان مرئياً جدّاً، مثل زوايا الكاميرا، ولكن له معنى كبير بالنسبة لي. ما أدركته: كانت هناك قصّة وراء هذا المكان، خلف هذه الصورة، وبدأت أفكر في الشخصيات والحبكة، وكل شيء جاء من هنا". من هنا تحديداً وُلدت برشلونة كمسرح لرواية الغموض والتشويق التي قدّمها زافون لقرّائه.

لاحظ العديد من الناقدين والمعجبين كيف يمكن أن تكون روايات زافون أفلاماً، خاصّة في تلك المشاهد التي تصف المقبرة والسراديب والقصور المهدّمة، لكنه يصرّ على أنه لا يريد ذلك على الرغم من بعض العروض السخية للغاية من الأشخاص الذين يحترمهم لتحويل كتبه إلى أفلام، يقول: "منذ البداية تدور هذه الكتب حول استكشاف عجائب عالم الأدب... سيكون من الخطأ استغلال هذا أو ترجمته إلى نوع مختلف، بالمجمل لا حرج في تحويل الكتب إلى أفلام، ولكن لماذا يجب أن يكون كل شيء فيلماً أو مسلسلاً تلفزيونياً؟ لماذا لا يمكن أن يكون الكتاب كتاباً فقط؟ في هذه الحالة ما أشعر به هو أنها جيّدة كما هي".

المساهمون