قومية الدولة... قانون العنصرية الدينية
وقد صدرت عشرات القرارات الأممية التي تدين هذا الاحتلال وجرائمه وانتهاكاته للقانون الدولي، ولعل من أهم هذه القرارات الأممية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3379) والصادر في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني لسنة 1975، والذي نص على "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي تشكل خطرا على الأمن والسلم العالميين".
وشكل هذا القرار هاجسا مقلقا لدولة الاحتلال الصهيوني لم يزل إلا بعد أن نجحت وبالدعم الأميركي المطلق في الضغط على دول العالم لإلغائه وتوجت جهودها في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1991 باستصدار قرار الجمعية العامة رقم 86/46 القاضي بإلغاء قرار الجمعية العامة السابق رقم (3379) وكان هذا أحد شروطها للتفاوض مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إبّان انعقاد مؤتمر مدريد في أكتوبر/ تشرين الأول 1991 وقبل توقيع اتفاقية أوسلو الكارثية سنة 1993.
وقد بدأت تسعى جاهدة بكامل طاقاتها ومؤسساتها لتغيير صورتها دولياً وفي الرأي العام العالمي من كيان عنصري إلى دولة ديمقراطية، وكان من أهم الأدوات التي استخدمتها في سبيل ذلك سن التشريعات والقوانين لإضفاء الشرعية المزعومة على السياسات والإجراءات العنصرية التي تمارسها قوات الاحتلال، ولم تكن سلسلة القوانين العنصرية المجحفة والظالمة المغتصبة حقوق شعبنا الفلسطيني منذ نكبة 1948 وحتى اليوم إلا تكريسا لسيادة الاحتلال وسلطاته على أرض الواقع ومحاولة لتقنين جرائمه وإخفاء حقيقته كاحتلال استعماري اقلاعي احلالي، والترويج لأكذوبة دولة إسرائيل بصفتها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
ولكن سقطت ورقة التوت وتكشفت عورة الكيان الصهيوني الغاصب بعد صدور قانون قومية الدولة في 19 يونيو/ حزيران 2018 وبانت حقيقته العنصرية جلية أمام العالم بأسره. وقد أثبت هذا القانون بشكل قاطع وبما لا يدع مجالاً للشك صحة الرواية الفلسطينية عن حقيقة هذا الاحتلال الغاشم بوصفه "نظام ارباتهايد" يتجاوز ما كان معروفا في جنوب أفريقيا فهو لا يكتفي بالتمييز العنصري والعزل العنصري بل يسعى إلى القضاء على الشعب الفلسطيني وزوال شخصيته وإنهائه من الوجود وطمس الهوية العربية ووأدها حية بكامل مكوناتها لغة وثقافة وتراثا وتاريخا.
وبقراءة متعمقة في فحوى بنود هذا القانون نجد أن:
1. يعتبر أخطر القوانين العنصرية التي أقرّها الكنيست الإسرائيلي على الإطلاق منذ نكبة شعبنا سنة 1948 وحتى اليوم، ويتجاوز في شروره إعلان بلفور ووثيقة صك الانتداب نفسها، ويرسخ زوراً الحق التاريخي لليهود في فلسطين، ويأتي كتتويج لسلسلة القوانين العنصرية التي التي سنتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتبرير جرائمها وسياساتها الممنهجة في اضطهاد أبناء شعبنا الفلسطينيين وإصباغها بالصفة الشرعية.
2. يترتب عليه تهديدات خطيرة للحقوق الأساسية للإنسان الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة وخارجها.
3. يهدف إلى نزع الصفة الجرمية عن الاحتلال وإصباغ الصفة الدستورية على الانتهاكات الصهيونية للقانون الدولي، بخاصة الاستيطان وعمليات التهويد المضطردة والشاملة لجميع المكونات الديمغرافية والحضارية والثقافية والدينية في فلسطين المحتلة.
4. يكرّس الوضع النهائي للقدس كعاصمة كاملة وموحدة للكيان الصهيوني، في ضوء قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها وطرحها خارج أي مفاوضات مستقبلية.
5. يفتح الباب على مصراعيه لهجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة دون قيد أو شرط، ويغلق الباب نهائياً في وجه عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجروا منها قسراً على يد الأفواج الأولى من المهاجرين المستعمرين الصهاينة.
حقيقة قانون قومية الدولة:
يمثل هذا القانون في جوهره "يهودية الدولة" على أساس ديني مبني على عقيدة إيمانية بأن اليهود هم شعب الله المختار وأنهم عرق ساميّ دماؤهم طاهرة وهم أعلى مرتبة من بقية شعوب العالم وأن هذا التفوق للشعب اليهودي ونقاء الدم اليهودي يوجب عدم اختلاط الدم اليهودي بدماء الآخرين، وأن فلسطين المحتلة هي أرض الميعاد ولم شمل أتباع الديانة اليهودية من الشتات.
خطورة قانون قومية الدولة:
تكمن خطورة هذا القانون في طبيعته كقانون أساس بمثابة جزء من دستور الدولة غير المدون وأقوى القوانين ولا يجوز لأي قانون أو تشريع آخر أن يخالفه، وكذلك لا تجوز للمحاكم على درجاتها أن تخالفه في أحكامها القضائية وإلا صارت أحكامها باطلة لكونها غير دستورية. فهذه القوانين الأساسية يعتبرها الكنيست "السلطة التشريعية الوحيدة في إسرائيل ويعاملها على أنها واحدة من المواد والقواعد الدستورية لدستور غير مدون، فإسرائيل لا يوجد لديها دستور مكتوب كما هو متعارف عليه قانونياً ودولياً، وعلى الرغم من أن النظام القضائي لديها يخلو من هرم عمودي للتشريعات والقوانين وأسس واضحة لتحديد قوة وأسبقية القوانين الأساسية في ما بينها أو أسبقيتها مع التشريعات العادية، إلا أنه في التطبيقات الواقعية تعطى الأسبقية في التطبيق للقوانين الأساسية على باقي القوانين العادية وعند تنازع القوانين الأساسية في ما بينها يتم ترك تفسير هذا التنازع وحله للاجتهادات القضائية في المحاكم، وهو معيار غير محدد والذي قد يخضع لاعتبارات سياسية توظف للإضرار بمصلحة الشعب الفلسطيني.
من ناحية أخرى، فإن هذا القانون يهدف إلى تقنين الجرائم التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلية وانتهاكاتها القانون الدولي والشرعية الدولية وبشكل خاص اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 التي مارستها طوال 70 عاما من احتلالها أرض فلسطين، وتحديداً نزع الصفة الجرمية عن هذه الممارسات، لا بل وأكثر من ذلك منح حصانة دستورية لاستمرار هذه الجرائم والانتهاكات بشكل أوسع وأكثر عنصرية وإجراماً.
في الواقع العملي سيكون هذا القانون مصدرا دستوريا وستكون نتائجه وخيمة على شعبنا منها اتخاذ إجراءات إدارية وتشريعية وقضائية لتكريس سيادة الاحتلال الصهيوني وبسط سلطته على القدس والضفة وكامل أرض فلسطين وكذلك إباحة ممارسة إجراءات عنصرية إقصائية من حيث مصادرة الأراضي، والتهويد، والإبعاد، وهدم المنازل، والحرمان من الحقوق المدنية والوطنية، وممارسات الفصل العنصري كطرد الفلسطينيين من أحياء القدس وضواحيها ونفي الأسرى الفلسطينيين خارج فلسطين المحتلة وطمس الهوية العربية لغة وتراثاً وثقافة. كما أنه سيفتح الباب على مصراعيه لتدفق هجرة اليهود من دول العالم إلى أرض فلسطين المحتلة.
والخطورة الأكبر أيضاً في التطبيق القضائي، حيث إن هذا القانون سيؤدي إلى إبطال وتعطيل إحدى أهم الأدوات والخيارات القانونية المتاحة التي يلجأ إليها الفلسطينيون للمطالبة بحقوقهم أو رفع الظلم عنهم وهي المحكمة الدستورية والتي ستعتمد في أحكامها الصادرة مستقبلاً على هذا القانون كونه قانونا أساسا وبذلك تغدو ممارسات وسياسات التمييز العنصري والفصل العنصري ضد شعبنا الفلسطيني محمية ومصانة بموجب القانون.