كغيرها من المدن العراقية الموغلة في القدم، تضم مدينة كركوك المعروفة أيضا باسم "سلة الفواكه" لاحتوائها على خمس قوميات هي العربية والكردية والتركمانية والأرمنية والآشورية فضلا عن أربع ديانات وستة مذاهب أبرزها الإسلامية والمسيحية والصابئية والكاكائية وغيرها، ظلت تتعايش بسلام وبدت أقرب لوصف أفلاطون "الجمهورية الفاضلة".
غير أن الحال لم يعد كذلك بعد احتلال العراق، إلا أن ثمة ما يمكن اعتباره رجل إطفاء الفتن في المدينة، وهي قلعتها التاريخية التي تذكر جميع السكان أنهم أخوة على حدّ قول أحد أعيان مدينة كركوك، الحاج أحمد محمود، لـ "العربي الجديد".
وقلعة كركوك تقع فوق التلة الأثرية الضخمة التي تضم في ثناياها بقايا مدن عمرها آلاف السنين، وتحوي أكثر من ستين برجاً للحراسة أقامها الإسكندر الكبير في القرن الرابع قبل الميلاد.
بنيت قلعة كركوك في الأصل على تل بأربع زوايا يرتفع عن السهول المحيطة به بنحو 120 قدما، ويشرف على نهر "الخاصّة" بمياهه القليلة والتي تفيض عادة في الفصول الممطرة،. ويظهر إن القلعة كانت مسورة في العصور القديمة، وكان لها أربعة أبواب سماها العثمانيون في ما بعد بالباب الرئيس ذي المدرجات، وباب الطوب، وباب البنات السبع، وباب الحلوجية.
أشهر المجمعات السكنية في قلعة كركوك كانت تقع في قسمه الغربي الذي اشتهر بمحلة الحمام، التي شاطر فيها المسلمون إخوانهم المسيحيين لقرون عدة، وكان كل من مركز مطرانية باجرامي وجامع النبي دانيال يقعان في المحلة نفسها. وتعد تلك البوابات الحجرية التي يزيد عمرها على قرنين من الزمن فريدة من نوعها لما تتميز به من طراز معماري جميل. وأعطتها الأقواس رونقا أبهى وكانت تعلوها كتابات لكن عوامل التعرية أزالت بعض نصوصها.
ويضيف محمود أنه بعد وفاة الإسكندر، اقتسم قادته المملكة، فكانت كركوك من نصيب القائد سلوقس الذي أسس الدولة السلوقية 311 ـ 1319 ق.م. وتؤكد المصادر التاريخية أن القائد المذكور أقام على أنقاض المباني المهدمة قلعة حصينة مسورة بسور منيع عليه 72 برجاً، وشُيِّد لها بابان أطلق على الأول اسم "باب الملك"، وعلى الثاني اسم "باب طوطي" وهو اسم حاكم القلعة آنذاك.
كما تقسيم القلعة على 72 زقاقاً. وأسكن بعض العشائر حول سور المدينة فصارت تعرف المدينة منذ ذلك الحين باسم "كرخ سلوقس" أي "مدينة سلوقس" حتى انتزعها منهم البارشبول (256 ق.م).
وفي عصر البارثين كثرت الفتن والاضطرابات الداخلية فساءت الأوضاع واندلعت الحروب بينهم وبين الرومان، ما أضعف دولتهم، فاستغل الساسانيون ضعف البارثين فهجموا عليهم، وأسقطوا حكمهم. في حدود عام 227 ق.م، لم ينل أهالي كرخيني الخلاص إلا على يد الجيوش الإسلامية التي قضت على الدولة الساسانية، وعاشت المدينة فترة من الرخاء والاستقرار حتى فترة اكتساح المغول بلاد المسلمين، فدخلت كركوك تحت حكم التتار.
خضعت قلعة كركوك لعملية ترميم مؤخراً، فهناك سوق تعلوها أقواس من المفترض أن تعود إلى حقبة العصور الوسطى لكن شيدت قبل عشر سنوات، وتعود الحجارة الأصلية للقرن الحادي عشر لكن الأقواس انهارت ودفنت بين الأنقاض. كما تحوي معالم من الحقبة السلجوقية، التي تتميز بأشكال الأقواس، فلكل فترة أسلوبها الخاص بها.
وفي القلعة أيضا قبر النبي دانيال أحد أحبار اليهود، أما المسجد الكبير المجاور يعود إلى سبعة قرون، وخضع كل منهما لعملية ترميم مماثلة حديثا مع جدرانهما المطلية باللون الأبيض. لكن الأضرار التي لحقت بالقبر والمسجد، فهي لا تقارن بنهب القطع الأثرية في السنوات التي أعقبت الدخول الأميركي عام 2003 إلى العراق، ولا تزال مستمرة في بعض المواقع.
ويقول مدير آثار كركوك إياد طارق "قلعة كركوك تعد معلما تاريخيا مهما للمدينة"، مشدداً على ضرورة تطوير القلعة وفق المعايير الدولية التي تتطابق مع قوانين وشروط منظمة "يونيسكو" لغرض إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي.
وأضاف "تسعى محافظة كركوك لإدراج قلعتها ضمن قائمة التراث العالمي، كونها واحدة من أقدم القلاع في تاريخ البلاد، وناقش مجلس كركوك وفودا تابعة ليونيسكو لهذا الغرض.
وأكد أن "القلعة بحاجة إلى نخصصات مالية لغرض إعمارها بعد تساقط أجزاء منها، ومنازل تراثية فيها"، مشيراً إلى أن القلعة أفرغت تماماً من أهلها بسبب استمرار الانهيارات في أعمدتها، وتأثرها بالتفجيرات القريبة التي تتكرر بين الحين والآخر.