على الدوام حاضرة في خطاباتهم، ويندر غيابها عن أحاديثهم، فلسطين والعرب، ثنائية يصعب، بل يستحيل الفكاك منها، لا بحكم الجغرافية، ولا التاريخ فقط، بل يتعدى الأمر ذلك، إلى حيز رسم معالم المستقبل وشكل صياغة الهوية وصيانتها عربياً. هي جرح العرب، شعوباً، دائم النزيف، عبرت القرن العشرين كاملاً، يتنقل زمام الهيمنة فيها من قبضة استعمارية كلاسيكية إلى مقبض استيطاني مركب غير كلاسيكي البتة. وهي جرح العرب، أنظمة، عند وضع سؤال الكرامة والأمن القومي والمستقبل العربي المشترك على الطاولة، وعند طرح العجز والتسويف والبعد عن إرادات الشعوب، ورؤاها أساً للقيام على هذه الأنظمة بربيع الشعوب المجيد، الذي لم يُوفر جهدٌ لوأده في مهده، بينما كانت العيون هناك في الأرض المحتلة تلمع فرحاً وتنتظر أملاً في ما يمكن أن يزهر عليها، وتنعم بظلاله من ربيع الأخوة الذي هو ربيع لها.
تعددت المقترحات لحل هذه القضية، وكأنها قضية خلاف بين دول جوار، وطرحت المبادرات الإقليمية والدولية، ومنها العربية. كثرت الهيئات، وفرخت اللجان، وتمأسست العلاقات في إطار معادلة "النضال" الفلسطيني ولأجل فلسطين. ولم يغب يوماً سؤال التمثيل السياسي والتعبير عن الرؤية والنفاذ للحق لدى الفلسطينيين. فمن اقتسام التركة الفلسطينية بعد نكبة 1948 وهزيمة الجيوش العربية، بل لا نقول هزيمة، فالهزيمة لمن قاتل وكسر أو انتكس، ولكن لا تكون لمن اشتراها أو دأب على الوصول إليها، إلى فرض إدارة الجوار العربي، مصر والأردن، على الأجزاء المتبقية خارج اليد الصهيونية، والتي سرعان ما وقعت القفزة الصهيونية لانتهاكها مع أراض عربية أخرى. وصولاً إلى انتفاض الشعب الفلسطيني داخل أرضه المحتلة، كل واحد، بعد أن جرب الطريق الطويل من النضال المنطلق من "دول الطوق" والارتكان لعون الإخوة، الذي لم يوفر جهداً في أرجَحة المصائر الفلسطينية، من أيلول مكفهر إلى تل زعتر دام، دون أن تفقد الذاكرة ما فيها عن الجارتين صبرا وشاتيلا، ودون نكران ما دفعت به يد الظلام في مقابلة يد الرعونة، لأن يكون في نهر البارد قبل أعوام قليلة، لنصل إلى ما في عاصمة اللجوء، اليرموك، اليوم، الذي طالما كانت أزقته وساحاته متاحة لخطاب "الممانعين" الواعدين بالتحرير القريب، وبالأمة العربية الواحدة، لكن لم يصبروا طويلاً حتى انتهزوا حلول الربيع ليخرجوا من جحورهم السلطوية والمخابراتية المرتهنة لاصطفافات طائفية وإقليمية مقيتة، منكلين متعسفين بكل ما تصل إليه صنيعتهم من براميل الموت البعثي الطائفي.
وهنا كان السؤال الذي لم يعد يطيق انتظاراً، ولا تأويلاً، فكم من نظام وبنية سلطوية استغلت هذا الحنين العربي لأرضه في فلسطين حرة معافاة من الاستعمار، عنواناً لكرامته ومكمناً لأمنه وفرحه. وفي الوقت عينه على من اللوم والأيدي التي مارست الحبو على طريق شبه التسويات اللاعادلة، كانت بادئ ذي بدء ممن يفترض بهم تمثيل مصالح هذا الشعب اللاجئ في وطنه وخارجه، ببرنامج نقاطهم العشر، ذلك الذي أعطى ضوءاً أخضرَ لصاحب كامب ديفيد، ولتمتزج المآلات التطبيعية وتأتي أوسلو فوادي عربة لاحقاً.
لكن، وبالنسبة للفلسطينيين، والعرب، فالحق هو الحق، تقرير المصير بحرية واستقلالية، العودة إلى التراب الوطني والمكان الأصلي هي الأعمدة والجذور لأي مسعى يبتغي رضا العرب، وهذا ما أشارت إليه وأكدته شوارع الرباط وتونس والقاهرة وعمان والكويت وأخواتها. وهذا ما قالته الشعوب منذ انطلاق السؤال الفلسطيني، ومنذ وصول أول الفلسطينيين إلى عواصم الأشقاء لاجئاً مستجيراً، ليجد احتضان الشعب لا يخيبه، وخذلان الأنظمة بما لا يطيق حر.
تبقى فلسطين قضية عربية بامتياز، فهي ليست همّ الفلسطيني وحده، على الرغم من تنامي تشوهات التطبيع والقبول بما هو صهيوني في غير وسط عربي، إلا أن القضية والقاضي عند الشعوب تبقى هي أرضهم المحببة المحتلة.
راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk