تعيش بعض مناطق جنوب العراق، خصوصاً في النجف وكربلاء، توتراً، لا يزال في بداياته، موجهاً ضد سياسات إيرانية، مع اعتقال السلطات الإيرانية حسين الشيرازي، نجل المرجع الديني العراقي، آية الله صادق الشيرازي، في مدينة قم الإيرانية، وذلك عقب محاضرة له شبّه فيها المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي بـ"فرعون". وتشهد كربلاء والبصرة احتجاجات مستمرة أمام القنصليات الإيرانية، تنديداً باعتقال الشيرازي، برز فيها ترديد شعارات غير مسبوقة من نوعها، تهاجم خامنئي. ولا يزال رئيس الحكومة حيدر العبادي يرفض التدخّل في الأزمة، خوفاً من انعكاساتها على حكومته، نظراً للنفوذ الإيراني الكبير في العراق. ولم تتوقف تداعيات هذه القضية على العراق، إذ خرج العشرات من شيعة الكويت في تظاهرات مماثلة، فيما قامت مجموعة من مقلّدي المرجع الشيرازي بالهجوم على السفارة الإيرانية في لندن وتحطيم أجزاء من أثاثها.
وبعدها أصدرت "محكمة رجال الدين" المرتبطة بالمرشد علي خامنئي، الثلاثاء الماضي، قراراً باعتقال حسين الشيرازي، الذي كان بصحبة والده المرجع صادق الشيرازي. وأفادت مواقع باللغة الفارسية مقربة من التيار الشيرازي في إيران أن عناصر الاستخبارات الإيرانية "اعتدوا" عليه بعصا كهربائية بالإضافة إلى سبه وقذفه.
إثر ذلك، انطلقت تظاهرات احتجاجية نظّمها مقلّدو الشيرازي في مناطق عراقية متفرقة مثل البصرة وكربلاء والنجف، نددوا خلالها بـ"السياسة القمعية" التي تنتهجها السلطات الإيرانية تجاه حرية الرأي والتعبير، كما طالب المتظاهرون العبادي بالتدخّل من أجل إطلاق سراح الشيرازي.
وقال محمد نازك، وهو أحد مقلّدي المرجع الشيرازي في مدينة كربلاء، لـ"العربي الجديد"، إن "احتجاجنا أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء لم يأت بنتيجة، لأن الطرف الإيراني لم يعلّق على حادثة الاعتقال"، موضحاً أن "مراجعنا الدينية في إيران خط أحمر، ولن نسمح لسلطات ولاية الفقيه بإهانتها أو الاعتداء عليها". وأضاف نازك أن "السلطات الإيرانية كانت طاغية في تعاملها مع معارضيها، وهذه قمة الديكتاتورية"، مشيراً إلى أن "السلطات الإيرانية منعت زوجة وبنات المرجع الشيرازي من الوصول إلى السجن لإعطائه الدواء الخاص به، كونه مصاباً بداء السكري". ولفت إلى أن "الزيارة الأخيرة التي بادر بها عدد من مراجع الشيعة يوم الخميس الماضي، إلى المرجعية العليا المتمثلة بالسيد علي السيستاني، لبحث تطورات تجاوز إيران على رجال الدين المعارضين لنظام ولاية الفقيه، قد تحل المشكلة، ولا سيما أن الزوجة الثانية للسيد السيستاني من آل الشيرازي".
ويُعتبر التيار الشيرازي في إيران والعراق أبرز الرافضين لنظام ولاية الفقيه، ويرى منظّرو هذا التيار أن ولاية الفقيه تؤسس لديكتاتورية وتسرّع في انهيار الأنظمة، ويدعون في الوقت نفسه إلى الاستماع لآراء الفقهاء والمراجع الآخرين. وظلت المدرسة الشيرازية منذ عام 1979 نداً لنظيرتها الخمينية في مسألة ولاية الفقيه وجوانب فقهية أخرى تتعلق بإدارة البلاد، قبل أن تفرض السلطات الإيرانية الإقامة الجبرية على المرجع محمد الشيرازي حتى وفاته عام 2001 في منزله وتولي شقيقه صادق الشيرازي زعامة المدرسة الشيرازية.
وأدى احتلال العراق عام 2003 إلى عودة فاعلية المدرسة الشيرازية بشكل تدريجي في البلاد، إذ وجدت لها متنفساً بالعودة للساحة العراقية واستخدام قاعدتها الشعبية هناك من مقلدي التيار الذين يتوافقون في الطرح مع التيار الصدري في مسألة ولاية الفقيه، لكنهم يختلفون في مسائل فقهية أخرى. وأدى ذلك إلى عودة تأثيرهم في الساحة الإيرانية مجدداً من خلال المحاضرات والدروس اليومية والأسبوعية في مدينة قم، والتي أخذت أخيراً طابعاً سياسياً عوضاً عن الديني، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا المواطن الإيراني ووضعه الاقتصادي وأهمية تغليب مصلحته على مصلحة الملف السوري والعراقي واليمني واللبناني، وهو ما أحدث تفاعلاً شعبياً حتى من غير التيار الديني في إيران بالفترة الماضية.
وفي هذا السياق، أكد مصدر سياسي مقرب من العبادي، لـ"العربي الجديد"، أن "صراع المراجع كبر خلال الفترة الأخيرة سواء في العراق أو خارجه، والعبادي لا ينوي التدخّل في مثل هذه الأمور". وقال المصدر إن "موضوع الشيرازي المعتقل حساس وحرج، وقد يعرّض الحكومة إلى مشاكل، ولا سيما مع النفوذ الإيراني القائم في العراق". وأضاف المصدر أن "المرجعيات العراقية التي تقيم في إيران أغلبها ترفض نظام ولاية الفقيه القائم على قمع المعارضة والتوسع خارج حدود الدولة"، لافتاً إلى أن "الموضوع طُرح على العبادي إلا أنه فضّل عدم التدخل، فهو يريد ترك الحل بأيدي المراجع الشيعية التي من المفترض أن تجتمع على رأي وتصل إلى نتيجة تجدها صحيحة".
في موازاة ذلك، تتصاعد المطالبات للسلطات العراقية بالتدخل لحلحلة الأزمة. وفي هذا السياق، دعا عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي أحمد عبد الله الجبوري، وزارة الخارجية إلى التدخل وحماية المرجع الشيرازي لأنه "عراقي الجنسية". وقال الجبوري لـ"العربي الجديد"، إن "الحكومة العراقية مسؤولة عن حماية ورعاية مصالح المواطنين العراقيين الذين يقيمون في بلدان أخرى"، موضحاً أن "وزارة الخارجية يقع ضمن مسؤوليتها التعامل مع حادثة الاعتقال بكل جدية، كونها تمس حياة رجل دين عراقي ونجل مرجع شيعي مهم". وأضاف أن "من واجب السفارة العراقية في طهران التحرك الآن، لبحث أسباب الاعتقال، ورعاية حياة المعتقل، وتوفير العلاجات الخاصة به، كذلك منع أي حالة اعتداء قد تصيبه".
وفي قراءة لهذه التطورات، أوضح الخبير في شؤون المرجعيات الدينية في العراق، أحمد العسكري، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، أن الشيرازيين صعّدوا من حملتهم ضد خامنئي أخيراً بسبب ما لمسوه من تململ وامتعاض من الشارع الإيراني مع تردي الحالة المعيشية وانخفاض دخل المواطنين هناك وزيادة تدخّل النظام في دول المنطقة وإنفاقه مبالغ كبيرة، فضلاً عن تمييز النظام بين المدن لجهة ولائها له وتقديم خدمات أكثر لبعضها. وأشار إلى أن "النظام الإيراني ذكي وسيمتص الأزمة بالتأكيد، لكن الحادثة أكدت الخلاف بين المرجعية العربية والإيرانية، وقد تكون مجرد بداية لصراع من نوع آخر يقوم على كسب المقلّدين والمؤيدين من عامة الشيعة، سيبلغ ذروته ويتضح مع وفاة خامنئي الذي لا يوجد حتى الآن بديل مناسب عنه"، متوقعاً أن "يكون تدخّل المرجعية في النجف نحو إطلاق سراح الشيرازي والسماح له بالقدوم إلى العراق للإقامة فيها لحل الإشكال".