قضية إبستاين... أنظار موجّهة إلى النظام القضائي الأميركي

23 يوليو 2019
ضدّ جيفري إبستاين في نيويورك (ستيفاني كيث/ Getty)
+ الخط -

مساء السادس من يوليو/ تموز الجاري، أُوقف رجل الأعمال جيفري إبستاين في الولايات المتحدة الأميركية، وهو اليوم ينتظر محاكمته في سجن مشدّد الحراسة، بعدما رُفض طلب إخلاء سبيله بكفالة مالية.

ما إن حطّت الطائرة الخاصة بالمليونير الأميركي جيفري إبستاين، الآتية من العاصمة الفرنسية باريس، في أحد مطارات نيو جيرسي القريب من نيويورك، حتى قامت قوات تابعة لمكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) في نيويورك بإلقاء القبض عليه. وجاء اعتقاله على يد الوحدة المعنية بالجرائم ضدّ الأطفال، إذ إنّه متهم بالاغتصاب والاتجار بالقاصرات والتحرّش الجنسي وجرائم أخرى ذات صلة. ولا تلقى قضية إبستاين اهتماماً بسبب عدد الضحايا وأعمارهنّ فحسب، بل لأنّ الرجل تمكّن نتيجة نفوذه المالي وكذلك السياسي وشبكة علاقاته من الإفلات من العقاب على مدى أعوام طويلة، علماً أنّه دين مرّة واحدة فقط في فلوريدا على خلفية تهم مشابهة، غير أنّ محاكمته أتت أشبه بمسرحية. حينها، في عام 2008، أُبرمت صفقة مع مكتب المدعي العام وأخفيت تفاصيلها بمعظمها عن الضحايا.

ويأتي إلقاء القبض على إبستاين، اليوم، ليسلّط الضوء مجدداً على مشكلات متعلقة بالنظام القضائي الأميركي، على الرغم من استقلاليته النسبية. فقد بيّن كيف يحمي الأشخاص ذوو النفوذ بعضهم بعضاً وكيف يمكن للمال والنفوذ أن يشتريا "الحرية" حتى في بلد كالولايات المتحدة الأميركية، لا سيّما أنّ ثمّة علاقات وثيقة تجمع إبستاين بأسماء كبيرة في الطبقة الحاكمة من أمثال الرئيس الأسبق بيل كلينتون والرئيس الحالي دونالد ترامب وغيرهما. وسلّط الضوء كذلك على ما رافق محاكمته السابقة وعدم قانونية بعض الإجراءات التي اتّخذت والتسهيلات التي قدّمت له. يُذكر أنّ وزير العمل الأميركي ألكسندر أكوستا اضطر إلى تقديم استقالته في أعقاب ذلك، في 12 يوليو/ تموز الجاري، بعد يومَين فقط على مؤتمر صحافي عقده ودافع فيه عن القرار الذي اتخذه في قضية إبستاين في عام 2008. فهو أدّى دوراً أساسياً حينها في تلك القضية، وقد أدّى أسلوب إدارته لذلك الملف القضائي إلى التسوية غير القانونية، علماً أنّه كان يشغل منصب المدعي العام في ميامي حيث وجّهت الاتهامات إلى إبستاين.

"الأطفال ليسوا ملكيّة للمنحرفين" (يوهانس أيسيلي/ فرانس برس)

استنسابية الكفالة المالية

في آخر المستجدات المتعلقة بقضية إبستاين، قرّر قاض في المحكمة الفدرالية في نيويورك يوم الخميس الماضي إبقاء إبستاين قيد التوقيف إلى حين بدء محاكمته، مع عدم الإفراج عنه بكفالة 77 مليون دولار، اقترحها محاميه. والأخير اقترح الإفراج عنه في مقابل ملازمة بيته (مبنى مدرسة سابقة) في مدينة نيويورك تحت حراسة أمنية مشددة، على أن يقوم هو بالتكفل بمصاريف الحراسة. لكنّ القاضي رفض ذلك لأنّ إبستاين بالنسبة إليه يمثّل خطراً حقيقياً على السلامة العامة ولأنّه قادر على الهرب من الولايات المتحدة الأميركية، على خلفية نفوذه وثروته التي تقدّر بـ 500 مليون دولار، خصوصاً أنّ لديه أملاكاً في خارج البلاد. فهو يملك جزيرة بأكملها، ناهيك عن طائراته الخاصة ونفوذه الواسع. ويحتجز إبستاين منذ اعتقاله قبل نحو أسبوعَين في سجن بمدينة مانهاتن معروف بالحراسة الأمنية المشددة، فهو يؤوي أشخاصاً خطرين من أمثال تاجر المخدّرات المكسيكي الشهير خواكين غوزمان الملقّب بـ"إل تشابو".

لم يُجدِ نظام الكفالة المعمول به في المحاكم الأميركية نفعاً هذه المرّة، فهو لم يُطبَّق لمصلحة إبستاين، والسبب في الأغلب تسليط الضوء على القضية إعلامياً، لا سيّما على نفوذه، بالإضافة إلى شهادتَين لاثنتَين من ضحاياه قالتا إنّهما سوف تشعران بالخطر وعدم الأمان في حال أُطلق سراحه إذ إنّه سوف يعمد إلى تهديدهما.




وتؤدّي الطبقة الاجتماعية وكذلك الخلفية الإثنية دورهما في ما يتعلق بنظام الكفالة الأميركي، فهو يقسو على الفقراء أو ذوي الدخل المحدود، خصوصاً بين الأقليات. وتشير الإحصاءات إلى أنّ نحو 70 في المائة من نزلاء السجون الأميركية المحلية محبوسون في انتظار محاكماتهم فقط لأنّهم لم يتمكنوا من دفع الكفالة المالية التي لا تتخطى قيمتها في أحيان كثيرة الألف دولار. فالفقراء غير قادرين على سدادها، لذا يقبعون بالسجن في انتظار موعد المحاكمة، علماً أنّ ما ارتكبه هؤلاء قد يكون بسيطاً أو غير عنيف من قبيل حيازة مخدرات. أمّا الأغنياء والقادرون على سداد الكفالة، مهما كانت قيمتها، فيستطيعون الخروج من السجن وممارسة حياتهم بطريقة عادية إلى حين إثبات التهم الموجّهة ضدّهم وانتهاء محاكمتهم. يُذكر أنّ التكاليف المترتّبة على احتجاز هؤلاء الذين يعجزون عن سداد كفالاتهم تكون باهظة. وقد وجد تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأميركية أنّ أربعة أميركيين من بين كل عشرة أميركيين قد يضطرون إلى البقاء على مدى أسابيع وأحياناً أشهر أو سنين في السجن في انتظار محاكمتهم لأنّهم لم يتمكنوا من سداد كفالة لا تتعدى 400 دولار أميركي في مرّات.

وتظهر كذلك عدم المساواة من خلال "نوعية" السجن الذي يوضع فيه المتهم، فذلك يخضع للصفقة التي تُعقد مع الادعاء والتي تتأثّر بالمحامين وبنفوذ المتّهم. ويتمكّن بالتالي المحامون الذين يتقاضون أجوراً باهظة والذين يتمتّعون بالخبرة، من إبرام صفقات تسهّل أوضاع زبائنهم ومصير كل واحد منهم. هكذا، فإنّ المتهمين ليسوا جميعهم سواسية أمام القضاء.

ألكسندر أكوستا يعلن استقالته من البيت الأبيض (ألاستير بايك/ فرانس برس)

نفوذ إبستاين

قد تؤدّي الاتهامات الموجّهة إلى إبستاين، البالغ من العمر 66 عاماً، إلى بقائه حتى نهاية أيام حياته في السجن، إذ إنّ عقوبتها قد تصل إلى 45 عاماً، ومن ضمن تلك الاتهامات استغلاله جنسياً عشرات الفتيات اللواتي لا يزيد عمر بعضهنّ على 14 عاماً. وبحسب ما تنقل وسائل إعلام أميركية، فإنّه كان يستغل الفتيات ويصوّرهنّ في مقرّ سكنه بنيويورك أو بمدن أخرى، بالإضافة إلى إجبارهنّ على استقطاب أخريات وممارسة الجنس مع رجال آخرين، يبدو أنّه عمد إلى تصويرهم كذلك وهم من أصحاب النفوذ في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم.

في السياق، نشرت صحيفة "ميامي هيرلد" الأميركية تحقيقاً صحافياً في نهاية العام الماضي سلّط الضوء على الصفقة التي عقدها وزير العمل المستقيل أكوستا لمصلحة إبستاين قبل 11 عاماً والشوائب الكبيرة في تلك الصفقة ودور العلاقات في ذلك، إلى جانب إخفاء تفاصيلها عن الضحايا وهو أمر غير قانوني. وأشار التقرير إلى أنّه ومن ضمن التهم التي كانت موجّهة إلى إبستاين في عام 2007، الاتّجار بالفتيات القصر، غالباً من خارج الولايات المتحدة الأميركية، فهو كان يحضرهنّ للمشاركة في حفلات جنسية تُقام في بيوته الكثيرة في نيويورك وميامي ونيو مكسيكو وجزيرته في الكاريبي. وكان من المفترض أن تؤدّي تلك التهم إلى جانب الشهادات، إلى سجنه مدى الحياة، لكنّ محاميه عقد الصفقة المشبوهة المشار إليها آنفاً مع المدعي العام في ميامي آنذاك (أكوستا) الذي صار أخيراً وزيراً في إدارة ترامب. وتلك الصفقة سدّت الطريق أمام التحقيق في تهم مشابهة ضدّ إبستاين كان مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) قد بدأه لاشتباهه في وجود عدد أكبر من الضحايا ناهيك عن تورّط مجموعة أكبر من الأشخاص من ذوي النفوذ واشتراكهم في جرائم إبستاين.



وأوضح التحقيق كذلك أنّ تلك الصفقة عُقدت على وجبة فطور بين محامي إبستاين، جاي ليفكوويتز، وبين المدعي العام أكوستا الذي كان قد عيّنه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن في منصبه. يُذكر أنّ الرجلَين، ليفكوويتز وأكوستا، كانا على معرفة مسبقة وقد شغلا مناصب رفيعة المستوى في إدارة بوش الابن. ومن ضمن ما تمّ الاتفاق عليه إقرار إبستاين بتهمتَي دعارة في مقابل السجن لمدة 13 شهراً، على أن يحصل مع أربعة متّهمين آخرين في القضية على حصانة من قبل مكتب التحقيقات الفدرالية. وقد تضمّنت الصفقة كذلك بنوداً إضافية غير عادية، منها الحصانة لأيّ شخص محتمل أن يكون قد تعاون مع إبستاين، من دون أن يسمّي الاتفاق هؤلاء المتعاونين المحتملين بالاسم، ما يترك المجال مفتوحاً للاجتهادات، مثلما أضاف التحقيق نفسه الذي قدّر أنّ الأمر تُرك مبهماً لحماية رجال وأشخاص آخرين متورّطين في جرائمه. إضافة إلى كل ذلك، وافق المدعي العام على عدم عرض تفاصيل الصفقة على الضحايا، في حين سُمح لمحامي إبستاين بنصّ تفاصيل الاتفاق بنفسه. يُذكر أنّ التحقيقات قدّرت عدد الضحايا آنذاك بخمسين فتاة أو أكثر. وبحسب مقابلات أجريت مع عدد من ضحاياه، فإنّ إبستاين كان يبحث عن فتيات فقيرات أو مشرّدات لن يهتمّ لمصيرهنّ أحد أو لا يملكنَ المال والإمكانيات لتوكيل محامين يدافعونَ عنهنّ. كذلك، سمحت الصفقة لإبستاين بمغادرة السجن "للعمل" في خلال النهار لستّة أيام في الأسبوع.