قصر الحمراء.. حاضرة أندلسيّة لم تسلم مفاتيحها

08 نوفمبر 2015
القصر شاهد على حضارة تعايش أندلسية لن تموت (Getty)
+ الخط -
أقف هنا في قصر الحمراء، أمام لوحة تتباهى بها بعض البيوت الإسبانية، هي لوحة تسليم مفاتيح غرناطة من قبل آخر ملوكها العرب، للملكة الكاثوليكية إيزابيل وزوجها الملك فرناندو. 

أقف وأرى وأنا في حضرة هذا الجمال الحسي المتفرّد بكل ما فيه كأنه ظل الجنة الحقيقي. أقف بين أبيات شعر ابن هانئ الأندلسي وابن زيدون الموزعة على جدران القصر، وأعلن أن غرناطة أبدا لم تسلم مفاتيحها لأحد، بل إن كل زخرف هنا، كل حجر، تحوّل إلى دانتيل شفاف يسخر من هذه اللوحة المقحمة عليها ويقول: "إن الفن لا يسلم مفاتيحه إلا لنفسه وللحياة"، وإنه بريء من كل التقلّبات السياسية من كل الإيديولوجيات ومن كل ما تفعله الأفكار المقولبة المسبقة الصنع.

يطالعك بيت شعر لشاعر لاتيني مكتوب فيه "إن أقسى ما يمكن أن تفعله الحياة بأعمى هو أن يزور قصر الحمراء في غرناطة". نعم هذا البيت يختصر كمّاً هائلا من الدهشة والرقي الذوقي والفني الذي نادراً ما يكون بأي مكان، ونادراً ما يكون مفعمًا بالحياة، ومحولا الجماد إلى لغة غاية في الرهافة.

بُني قصر الحمراء في أواخر القرن الخامس الهجري على يدي أحد ملوك الطوائف، لكنه سمي أيضاً بقصر بني نصر، لأن محمد بن الأحمر النصري هو الذي استوطن فيه وبدأ بإعادة إعماره بعد أن هاجمه ملوك قشتالة، فهرب إلى غرناطة وحاول تأسيس عرشه ومملكته الجديدة فيها، وقد اختارها بسبب وقوعها على هضبة تسمى هضبة سبيكة، وهي مكان جميل جدا يطل على كل ما حوله، ويجاورها نهر كبير، لكن أول مشكلة واجهته هي انخفاض حوض النهر عن الهضبة، لذا فقد كان أول عمل قام به هو الاستعانة بمهندسين عرب مميزين قدموا من بلاد الشام وحملوا معهم تقنية النواعير التي كانت مستعملة في مدينة حماة السورية، وبهذه التقنية استطاع إيصال الماء العذب للهضبة.

وهذا كان أهم أسباب ازدهار قصر الحمراء. وقد قام محمد أيضا ببناء أبراج القصر الضخمة ليعطي إحساسا بالرهبة والقوة، ما يخيف أعداءه القشتاليين. ومن بعد محمد، تسلّم ولده محمد بن محمد وأكمل بناء الحصن الجديد، كما أنه بنى مسجدا ضخما رائعا تحوّل في ما بعد إلى كنيسة السانتا ماريا، كما أنه أضاف بناء بعض من الأجنحة.

وقد تتالى الولاة على القصر إلى أن تسلّم الحكم السلطان يوسف أبو الحجاج، وهو الاسم الذي له الأثر الأكبر في جمال وتفرّد هذا الإرث الحضاري. إذ إنه كان بالإضافة إلى شخصيته القوية، يمتلك حسّاّ فنياً عالياً، لذا فقد استدعى أشهر المهندسين في ذاك الزمن وطلب منهم بناء أجمل وأرق وأفخم ما يمكن بطعم عربي إسلامي وبروح حداثية، وقد صرف كثيرا من أمواله كي يقدم له المهندسون أفكارا جديدة تضفي على هذا القصر روحا جديدة. وقد تمثل ذلك فعلا ببراعة استخدام المهندسين العرب لعلم المثلثات والزوايا الذي تجلّى في شكل بناء قوالب الزخارف وفي طريقة التعامل مع دخول الضوء، ومع حضور اللونين الأزرق والأحمر، وهذا ما قدم مع الضوء المدروس عالما من السحر اللوني الذي يأخذ الناظر إليه بعيدا إلى مساحات من الجمال والمتعة.

وقد ترك يوسف أبو الحجاج قصرا مؤلفا من عدة أبراج، أهمها برج الأميرات وبرج قماريش، أما الأبواب فأهمها باب الشريعة، وهو باب يبلغ ارتفاعه 15 متراً، ومكتوب على قوسه بالخط الأندلسي عبارة "أسعد الله به شريعة الإسلام وجعله فخرا على الأيام"، بالاضافة إلى أن تاريخ البناء هو 749 هجرياً، أي ما يعادل 1354 ميلادياً، محفور تحت هذه العبارة.

أما من الأجنحة، فأهمها جناح الأسود والذي هو لؤلؤة هذا القصر الذي يتألف من بهو كبير تتوسطه بركة ماء عذب يتوضع عليها 12 أسدا كانت المياه تخرج من فم كل أسد تبعا لتبدّل ساعات الليل والنهار، لكن الأميركيين حاولوا فهم آلية خروج الماء فقاموا بتخريبها. في عام 1984 اعترفت اليونسكو بقصر الحمراء كأحد أهم أعمدة التراث الإنساني من النوع الثقافي، وهذا ما جعل إسبانيا تدرك قيمة هذا القصر الذي تحوّل إلى أهم أسباب السياحة فيها، فهو أجمل أثر إسلامي بالغرب بدون منازع، قصفه الفرنسيون ودمروا جزءا منه، رغم أنه كان يمثل ثقافة العيش المشترك.

إن كل هذا يقول للعالم إن الطغاة والعقول السوداء لا يمكن أن تمحي حضارة فرضت نفسها وجمالها وأخلاقها على العالم، وإن أبيات الشعر التي طرّزتها ولّادة بنت المستكفي على طرف ثوبها هي الشاهد الأبقى الذي لن يموت.


اقرأ أيضاً: قصر الحمراء: تحفة في عنق الأندلس
المساهمون