21 نوفمبر 2024
قصة موت فلسطيني معلن
وكأنه موتٌ مشتهى في المخيلة وحسب، بدا مشهد موت باسل الأعرج الحقيقي في صوره الفوتوغرافية التي نشرتها الصحف، بعد أن اقتص منها القاتل جثة القتيل؛ مكان جثة فتى في بدء ثلاثينياته وقد مزّقها رصاص العدو، حيث تشظى القليل منها في الأرض دماً وكبرياء وموتا وحبرا، ليكتمل المشهد في السيناريو الواقعي، بمفردات الحب والحرب والحياة في الشعر والنثر والأغاني والآيات والرصاص.
حرفيا.. اشتبك باسل الأعرج مع قتلته، لتصعد الروح إلى بارئها فجرا، بعد أن نفدت ذخيرته، وبقيت قطعتا السلاح اللتان كان يستخدمهما واحدة تلو الأخرى إلى جانب الجثمان الدامي، محاطتين بكتب كثيرة، ونسخة من القرآن الكريم، ونسختين من مجلتي العربي والدراسات الفلسطينية، وكتاب لغرامشي، ورواية عربية وكوفية فلسطينية وأوراق كثيرة بيضاء ورصاص كثير فارغ.
هل رسم هذا المثقف والمناضل الفلسطيني الشاب موته كلوحة أخيرة في قصيدة النضال المستمرة كما يشتهي حقا، أم أن الأقدار أهدته ذلك الموت المثالي لشهيدٍ كتب وصيته، واسترسل في مديح الشهادة ببلاغةٍ تليق بالشهداء الذين يموتون على مهل؟
في صورة الوصية التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي بعد استشهاده، بدت الكلمات المكتوبة بخط اليد كأنها تعبير عفوي عن أسئلةٍ كثيرةٍ، عاش الصيدلاني الشاب حياته بين الكتب الفكرية، باحثا عن إجابة لها بلا جدوى، قبل أن تجيئه الإجابة على هيئة وابلٍ من الرصاص المعلن على مرأى من السلطة الفلسطينية الرسمية ومسمعها. في تلك الوصية، لخص الأعرج موقفه من الحياة، ومن الموت، ومن الوطن، ومن الشهادة، ومن الشهداء، ومن الوصية نفسها بوضوحٍ، يليق بمن يتراءى له الموت طازجا بعيونٍ وقحة: "لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت، وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيّرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة، ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.. وأنا الآن أسير إلى حتفي، راضيا مقتنعا، وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني! وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم... أما نحن، أهل القبور، فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
لا أحد يدري ما السؤال الأخير الذي راود باسل الأعرج، وهو ينتهي من كتابة الوصية، ويتركها حية للأبد على هامش موته القريب! لكننا نستطيع، على الأقل، تخمين حجم المرارة التي سالت بموازاة الدم الساخن على البلاط، لينبض من بينها سؤال الشهادة جرحا مفتوحا على فضاءٍ خالٍ من الأجوبة لهذا الصيدلي الفتي الذي درس علم تركيب الأدوية، وقرأ كثيرا عن تاريخ بلاده المحتل، وأيقن أن لا سبيل للخلاص النهائي من الاحتلال سوى بالمقاومة المستمرة ضد العدوان والاحتلال والمفاوضات والانقسام والهدنات المتتالية ومعاهدات الصلح التي لا تفضي إلا إلى مزيد من الاحتلال والسكون، وضد الخذلان الوطني الذي هو أشد مضاضةً على نفس الفتى التواقة للنضال والقتال من وقع رصاص العدو الصهيوني بالتأكيد!
هل فاجأ موت باسل الأعرج أحداً من رفاق الدم والحبر حقاً؟ أم كان خبرا عاديا عن أحد أشهر الشباب المناضلين بالحبر والرصاص في الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة؟ لا شك أن الموت هو فجيعة الأحياء، حتى وإن كان منتظرا لمصير متوقع لمقاومٍ تخرج من الجامعة، ليقود حراكا شبابيا متوقدا ضد السياسات المهادنة للانقسام في البيت الفلسطيني، ما أفضى به إلى سجن السلطة ستة أشهر، عزز خلالها إيمانه بضرورة الاستمرار على نهج المقاومة، كما فهمها من كتب التاريخ وسير الشهداء وقصة فلسطين.