قصة تمثال الحرية: من قناة السويس إلى نيويورك

28 يونيو 2015
كان يفترض أن يكون التمثال لفلاحة مصرية (كينا بيتانكور/Getty)
+ الخط -
شئنا أم أبينا صار تمثال الحرية رمزاً لأميركا. كان المَعَلَم الأول الذي يراه المهاجرون وسفنُهم تُقْبِلُ على خليج نيويورك. برؤيته يتأكدون أنهم وصلوا إلى برّ "العالم الجديد". كان هذا أيام السفن بوصفها وسيلة المواصلات الوحيدة بين بلدان العالم التي تفصل بينها بحار ومحيطات.

كان الطيران في علم الغيب، وربما لم يكن متخيلاً إلا في أذهان رؤيويين مثل رائدنا المبكّر عباس بن فرناس! ومثلما صار تمثال الحرية رمزاً طائراً، في أربعة أرجاء العالم، لأميركا، هو أيضاً علامة نيويورك وأيقونتها التي لم يتوقف سيل الزوار عن التدفق إليها، ولا توقفت عدسات الكاميرات من "الطقطقة" حولها، ولا كفّت السينما عن استخدامها في أجناس سينمائية متعددة، من السياحي إلى المستقبلي، مروراً بالرعب.

هل يمكن أن تكون هناك حياة أخرى لهذا التمثال العملاق الذي يبلغ طوله، مع قاعدته، نحو 93 متراً ويزن نحو 125 طناً؟ نعم، بالتأكيد. فلتمثال الحرية قصة مبكرة قبل أن تبحر أجزاؤه الـ 350 في سفينة ظلت تمخر عباب الأطلسي، من الشواطئ الفرنسية، عاما كاملا حتى وصلت إلى نيويورك في 17 حزيران/يونيو 1885.


في عام 1855، زار النحات الفرنسي فريدرك بارتولدي صعيد مصر ووقع في غرام النحت المصري القديم القائم على الضخامة والمهابة في آن. فقد أذهلته تماثيل معابد أسوان وسكنت خياله وقتاً طويلاً، بل يمكن القول إنه لم يتخلص منها في معظم أعماله التي ستكتسب سمعة عالمية لاحقاً. فكرة الضخامة والمهابة ودقة الصنيع فكرة فنية ومعمارية ودينية تبلغ كمالها في معابد أسوان. الضخامة والمهابة ضروريان في الفن المصري لخلق تناقض بين الخالد والفاني، الفرعون والمصري العادي، فأي إحساس بالضآلة (الجسدية على الأقل) تنتاب المرء عندما يمشي بين صف من أعمدة معابد أبو سنبل، أو وهو يقف تحت تمثال عملاق لرمسيس الثاني؟

ولكن النحات الفرنسي أراد أن يتحدى ملهمه: النحت المصري، وقال لمن كانوا معه في رحلته المصرية الأولى إنه يريد أن يقدم لمصر تمثالا أكبر من أبو الهول! ثم قال: عندما أجد الموضوع المناسب سأصنع أطول تمثال في العالم! إلى هذا الحد سكنت فكرة الضخامة عقل بارتولدي ناسياً، للحظة ربما، أن هناك بعداً دينياً لفكرة الضخامة المصرية. إنها ليست مجرد كتلة من الحجر المعالج جيداً بأزاميل محترفة، بل محاولة لإيجاد موطئ للروح عندما تغادر الجسد، ثم عندما تقرر العودة مرة أخرى.

اقرأ أيضاً: أغاني "البمبوطية": بحرية يا ريس بحرية

سيعود فرديرك بارتولدي إلى فرنسا، وسيمر بعض الوقت قبل أن يعرض على الخديوي إسماعيل فكرته مشفوعة بتخطيط أول لمنحوتته العملاقة، ثم ليعود ويطورها مع الانتهاء من حفر قناة السويس، أضخم عمل إنشائي بشري في تلك الفترة. لقد عثر على موضوعه. أراد أن تنتصب منحوتته العملاقة، التي تحاكي النحت المصري القديم، في مدخل قناة السويس كمنارة للسفن وكمشعل تنوير مصري لآسيا التي ستعبر إليها سفائن العالم من خلال هذا الممر المائي الجديد.

كان الخديوي إسماعيل قد غرق، حينها، في الديون بعدما استنزف حفر القناة الميزانية المصرية وتراكمت الديون الفرنسية والبريطانية التي جلبت الاستعمار إلى مصر. كان يمكن لمردود قناة السويس، بالطبع، أن يسدد نفقات صنع تمثال بارتولدي العملاق لولا أن تلك المداخيل كانت تذهب مباشرة إلى الدائنين الأوروبيين.

هدية فرنسية لأميركا
لم ييأس بارتولدي، الذي يبدو أنه أعاد صياغة فكرته، من إيجاد ممول لتمثاله العملاق. كانت الجمهورية الفرنسية الثانية ترغب في توطيد علاقتها مع القوة التي راحت تتكون وراء المحيط الأطلسي وصارت تجتذب إليها مهاجرين من كل أنحاء أوروبا. كان هناك رابط آخر بين فرنسا وأميركا الناشئة: إنها الثورة ومبادئ الحرية والاستقلال. فأهم ثورتين حدثتا في عالم القرن الثامن عشر والتاسع عشر، هما الثورتان الفرنسية والأميركية. ربما هناك بعد تنافسي، مع بريطانيا، كَمَنَ وراء تحرك الدولة الفرنسية لإهداء الحكومة الأميركية عملاً يوطد عرى الصداقة بين البلدين. أياً تكن الأسباب التي أدت إلى قيام الحكومة الفرنسية بحملة لجمع أموال لصنع تمثال بارتولدي فقد كانت النتيجة لصالح هذا الفنان الذي أراد، في البدء، أن يكون عمله منتصباً عند مدخل قناة السويس، وفي بلد قال إنه سيتحدى مثّاليه القدماء: مصر، ولكنه لم يستطع. هكذا عثر بارتولدي على موضوعه مرة ثانية.. وأخيرة.

وبدلاً من أن تكون سيدة الحرية فلاحة مصرية ترتدي أزياء عربية وتحمل مشعلاً صارت ذات طابع روماني. بل ثمة من قال يومها إن وجهها يشبه وجه أم النحات، وبدل أن تكون فكرة التمثال نابعة من زيارة بارتولدي إلى أسوان والقاهرة وذهوله أمام المنحوتات المصرية، صارت رؤيته لجزيرة "بدلو"، في خليج نيويورك الفارغة، يومها، من أي إنشاءات. فقد قال، أو نقل عنه، إن فكرة تمثال الحرية جاءته كرؤيا بعد مشاهدته جزيرة "بدلو" التي ظلت تحتفظ بهذا الاسم حتى عام 1956 عندما سميت "جزيرة الحرية" نسبة إلى التمثال بالطبع.

اقرأ أيضاً: شواهد زمن قوة ألمانيا


تمثال بارتولدي امرأة. ليس رجلا. وهذا مهم وقتها في أعمال من هذا الطراز التي غالباً ما تكون للرجال. إنه أشبه بإلهة رومانية أو يونانية. هنا المرأة تحضر، ولكن على شكل إلهة وليس في هيئة امرأة عادية.. كانت لا تزال في درجة متدنية في السلم الاجتماعي لتلك الحقبة. في يد سيدة الحرية اليمنى مشعل يضيء (تعبير عن النور، التنوير) وفي اليد اليسرى كتاب مكتوب عليه تاريخ إعلان الاستقلال الأميركي. على رأسها أكليل ذو شُعَب سبعٍ، ترمز، كما يقال إلى البحار السبعة، ولكن ربما الى أيام الخلق السبعة، وكل تجليات رقم سبعة المثيولوجية في غير أمة وثقافة. أما تحت قدم سيدة الحرية فثمة القيود التي تخلَّصت منها. ها نحن، إذن، أمام رمز بشري: القيود. وهذا يعيد تفسير بطولة المرأة للتمثال الذي أراده بارتولدي أن يبزَّ أبو الهول. هل فعل ذلك؟ كلا. بين أبو الهول وسيدة الحرية نحو ألفين وخمسمئة عام! شيء واحد تفوق فيه على أبو الهول: الطول، فارتفاع أبو الهول، من الأرض إلى القمة، نحو عشرين متراً، بينما يبلغ طول تمثال الحرية، من دون القاعدة، نحو 46 متراً.

أبو الهول يمثل كائناً أسطورياً رأسه رأس إنسان وجسده جسد أسد، وهو حارس هضبة الجيزة.. في عمل كبير آخر لبارتولدي، في مدينة بلفور الفرنسية، نرى أسداً منحوتاً في هضبة وينظر إلى المدينة كأنها حارسها!
المساهمون