12 نوفمبر 2024
قبل الموت بقليل
(إلى أمّي)
على العتبة أقف. مضى عليّ هنا أيامٌ لا يمكنني تقديرها، منذ أن حملتني سيارةُ الإسعاف إثر ضيقٍ جثم على أضلعي. كنتُ أغوص في مياهٍ دافئةٍ راحت تغمرني رويداً رويداً، وكان ملفتاً أني بقيت أتنفّس كأنّ الماء عنصرٌ كالهواء. ثم... لا أدري. أعتقد أني غبتُ إلى حين، وعندما عدتُ، وجدت نفسي واقفةً على هذي العتبة، طافيةً في الفراغ، لا رغبة لي بالتراجع ولا بالتقدّم، وسط كل هذا البياض. لا بأس. أخلعُ خفّي، وأمدّد قدميّ، وألقي بظهري على الخشب الأبيض، ولا بدّ أن تأتيني إشارةٌ أو أن يمرّ بي أحدٌ ما...
ياه، هذا صوت أبي. أسمعه آتياً من بعيد، وهو يكحّ كحّته المعتادة التي تنذر بقدومه. لا بدّ أن حلى، أمي، تقف الآن إلى يمينه، بضع خطواتٍ إلى الوراء. أتخيّلها باسمةً متشوّقةً لرؤيتي، تخفي بمنديلها الأبيض فمها كي لا ينكشف فيه ما ينقصها من أضراس. سيأخذني أبي إلى صدره طويلاً، وستنتظر أمّي أن يفرغ من عناقي، لتتقدّم إليّ من بعده. تهبّ نسمة هواء، فأمسك ضفيرتيّ وأردّهما إلى الوراء، أنزل ثوبي الذي انتفخ كبالونٍ إلى مستوى كاحليّ، وأنظر حوالي، يا لهذا البياض. أيعني ذلك أني متّ؟ لا أعتقد، فأنا تتناهى إليّ أصواتٌ خطى وصفّارات هلعة وصدى أنفاس متعبة... فجأةً، أشعر بالنعاس يهبط عليّ كغلالة، لو أنام... "أين أنتِ"؟ يسألني أبي شبه عاتب، "هيا بنا، نحن جميعاً بانتظارك. أتركي فقط تلك العتبة، وسيري باتجاه صوتي"...أضحك من قلبي، وقد بدأت أتميّز طيفه خلف بقعة الضوء. أتململ قليلاً محاولة النهوض، سيفرح أني قد قطعت كل هذه المسافة إليه. يهبط قلبي وتخونني ساقاي. لمَ لا تأتي أنتَ، يا أبي، وترفعني؟ أقولها بصوت ضعيف، متمنّية ألا يسمعني، فأنا، وإن كنت مشتاقةً جداً إليه، لا أقوى على الوقوف. من أين حلّ بي هذا التعب كلّه...
يجب أن أقف. أستدير لأواجه الضوء معطيةً ظهري للغرفة ورائي، وحين أطوي ركبتيّ استعداداً للقيام، أسمع اسمي تردّده أصواتٌ بين التوسّل والنحيب. ياه، أصواتُ صغارٍ وقد يكونون بحاجة إليّ. أرى طيف أبي يبتعد، وأرى الضوء يخفت، فأكاد أن أصرخ له أن يبقى معي، فأنا بالكاد وصلت. "يا أمي، يا أمي"، يصرخ أولادٌ مستغيثين. أين ذهبت أمهاتكم؟ لا تخافوا. أنا هنا، سأبقى معكم. يا صاحبة الثوب الأزرق الطويل، لن تخذليني، ولن تحرميني من الأطفال، أليس كذلك؟ غداً، حين أكبر، سأتزوج وأرزق بالكثير من الأولاد، عديني.
أسمع صوتاً ليس صوت أبي، آتياً من ناحية الضوء: "هؤلاء الأولاد، أنتِ أمّهم، أنسيتِ؟ هم أطفالك وأحفادك، وقد جاؤوا جميعا إليكِ من أجل الوداع". وحين أسأله، وأنت، من تكون؟ يضع كفه على أذنه ويبدأ بالغناء: "هيهات، يا ابو الزلف، عيني يا مولايّ، شريان قلبي انقطع، من نظرتك ليّ"... هذا أنت؟ يقفز قلبي طرباً. لطالما كان صوتُه يتغلغل في قلبي ويعبث به. أتعرف أني تزوجتكَ ربما، بسبب صوتكَ الجميل؟... يا الله، إذن تزوجتُ وصار عندي كل هؤلاء الأولاد؟ حبيبتي، يا مريم العذراء، كنت أعرف أنكِ لن تخذليني وستجعلينني أمّا. "وأنا، ألا فضل لي؟"، يقول لي باسماً بعينيه الحنونتين، قبل أن يقترب مني، عارضاً ذراعه كي أتأبطها. "هيا بنا"، يهمس في أذني، فتتسارع دقاتُ قلبي، وأشعر أني، لخفّتي، أكاد أطير. أمسكْ بي، لا تفلتني، قد أضيع، أصرخ ملهوفةً، فيفتح ذراعيه ويضمّني إليه، مطمئناً. والأولاد؟ أسأله، من سيعدّ لهم العشاء في غيابي، ومن سيردّ عليهم أغطية الدفء ضد برد المساء؟
قالت لنا الممرّضة، إن وجودكم طوال الوقت معها كأنه يمنعها من الرحيل. فتحلّقنا حولها وأمسكنا بيديها نقبلهما، ونقول لها: لا تخافي، لقد كبرنا، يا أمي، أكثر بكثير مما ينبغي، يمكنك الرحيل. هكذا، رويداً رويداً، إلى أن انطفأت نجمتنا الصغيرة، وحلّت نجمةً في السماء.
على العتبة أقف. مضى عليّ هنا أيامٌ لا يمكنني تقديرها، منذ أن حملتني سيارةُ الإسعاف إثر ضيقٍ جثم على أضلعي. كنتُ أغوص في مياهٍ دافئةٍ راحت تغمرني رويداً رويداً، وكان ملفتاً أني بقيت أتنفّس كأنّ الماء عنصرٌ كالهواء. ثم... لا أدري. أعتقد أني غبتُ إلى حين، وعندما عدتُ، وجدت نفسي واقفةً على هذي العتبة، طافيةً في الفراغ، لا رغبة لي بالتراجع ولا بالتقدّم، وسط كل هذا البياض. لا بأس. أخلعُ خفّي، وأمدّد قدميّ، وألقي بظهري على الخشب الأبيض، ولا بدّ أن تأتيني إشارةٌ أو أن يمرّ بي أحدٌ ما...
ياه، هذا صوت أبي. أسمعه آتياً من بعيد، وهو يكحّ كحّته المعتادة التي تنذر بقدومه. لا بدّ أن حلى، أمي، تقف الآن إلى يمينه، بضع خطواتٍ إلى الوراء. أتخيّلها باسمةً متشوّقةً لرؤيتي، تخفي بمنديلها الأبيض فمها كي لا ينكشف فيه ما ينقصها من أضراس. سيأخذني أبي إلى صدره طويلاً، وستنتظر أمّي أن يفرغ من عناقي، لتتقدّم إليّ من بعده. تهبّ نسمة هواء، فأمسك ضفيرتيّ وأردّهما إلى الوراء، أنزل ثوبي الذي انتفخ كبالونٍ إلى مستوى كاحليّ، وأنظر حوالي، يا لهذا البياض. أيعني ذلك أني متّ؟ لا أعتقد، فأنا تتناهى إليّ أصواتٌ خطى وصفّارات هلعة وصدى أنفاس متعبة... فجأةً، أشعر بالنعاس يهبط عليّ كغلالة، لو أنام... "أين أنتِ"؟ يسألني أبي شبه عاتب، "هيا بنا، نحن جميعاً بانتظارك. أتركي فقط تلك العتبة، وسيري باتجاه صوتي"...أضحك من قلبي، وقد بدأت أتميّز طيفه خلف بقعة الضوء. أتململ قليلاً محاولة النهوض، سيفرح أني قد قطعت كل هذه المسافة إليه. يهبط قلبي وتخونني ساقاي. لمَ لا تأتي أنتَ، يا أبي، وترفعني؟ أقولها بصوت ضعيف، متمنّية ألا يسمعني، فأنا، وإن كنت مشتاقةً جداً إليه، لا أقوى على الوقوف. من أين حلّ بي هذا التعب كلّه...
يجب أن أقف. أستدير لأواجه الضوء معطيةً ظهري للغرفة ورائي، وحين أطوي ركبتيّ استعداداً للقيام، أسمع اسمي تردّده أصواتٌ بين التوسّل والنحيب. ياه، أصواتُ صغارٍ وقد يكونون بحاجة إليّ. أرى طيف أبي يبتعد، وأرى الضوء يخفت، فأكاد أن أصرخ له أن يبقى معي، فأنا بالكاد وصلت. "يا أمي، يا أمي"، يصرخ أولادٌ مستغيثين. أين ذهبت أمهاتكم؟ لا تخافوا. أنا هنا، سأبقى معكم. يا صاحبة الثوب الأزرق الطويل، لن تخذليني، ولن تحرميني من الأطفال، أليس كذلك؟ غداً، حين أكبر، سأتزوج وأرزق بالكثير من الأولاد، عديني.
أسمع صوتاً ليس صوت أبي، آتياً من ناحية الضوء: "هؤلاء الأولاد، أنتِ أمّهم، أنسيتِ؟ هم أطفالك وأحفادك، وقد جاؤوا جميعا إليكِ من أجل الوداع". وحين أسأله، وأنت، من تكون؟ يضع كفه على أذنه ويبدأ بالغناء: "هيهات، يا ابو الزلف، عيني يا مولايّ، شريان قلبي انقطع، من نظرتك ليّ"... هذا أنت؟ يقفز قلبي طرباً. لطالما كان صوتُه يتغلغل في قلبي ويعبث به. أتعرف أني تزوجتكَ ربما، بسبب صوتكَ الجميل؟... يا الله، إذن تزوجتُ وصار عندي كل هؤلاء الأولاد؟ حبيبتي، يا مريم العذراء، كنت أعرف أنكِ لن تخذليني وستجعلينني أمّا. "وأنا، ألا فضل لي؟"، يقول لي باسماً بعينيه الحنونتين، قبل أن يقترب مني، عارضاً ذراعه كي أتأبطها. "هيا بنا"، يهمس في أذني، فتتسارع دقاتُ قلبي، وأشعر أني، لخفّتي، أكاد أطير. أمسكْ بي، لا تفلتني، قد أضيع، أصرخ ملهوفةً، فيفتح ذراعيه ويضمّني إليه، مطمئناً. والأولاد؟ أسأله، من سيعدّ لهم العشاء في غيابي، ومن سيردّ عليهم أغطية الدفء ضد برد المساء؟
قالت لنا الممرّضة، إن وجودكم طوال الوقت معها كأنه يمنعها من الرحيل. فتحلّقنا حولها وأمسكنا بيديها نقبلهما، ونقول لها: لا تخافي، لقد كبرنا، يا أمي، أكثر بكثير مما ينبغي، يمكنك الرحيل. هكذا، رويداً رويداً، إلى أن انطفأت نجمتنا الصغيرة، وحلّت نجمةً في السماء.