منذ سنوات شبابه، والسينما تجري في عروقه، ولم يغادره هذا الهوس وقد بلغ السبعين اليوم. فقبل أيام فقط، انتهى المخرج العراقي المخضرم، قاسم حوّل، من إنجاز أحدث أعماله: "بغداد خارج بغداد". وهو لا يزال مصّراً على البحث عن تمويل لأفلامه، سواء في العراق أو في فرنسا أو في تونس. أفلام يخرجها عادة في ظروف قاسية. ففيلماه "الأهوار"، و"بيوت في ذلك الزقاق" أنتجهما في عهد النظام السابق. أمّا "المغني" وفيلمه الأخير ففي عهد النظام الحالي.
يتحدث "بغداد خارج بغداد" (قريباً في صالات العرض) عن موضوع الغربة بمفهومها الوجودي لا الجغرافي، مع ما يقارب 30 ممثلاً. حكايات منسوجة على فكرة الغربة (من جلجامش إلى بدر شاكر السياب). غربة المثقف العراقي الأكثر غرائبية ودرامية بسبب طبيعة الأحداث التي مرت على العراق.
في لقاء مع "حوّل" نسأله عن فكرة تجسيد تاريخ طويل يمتد من أسطورة جلجامش حتى وقتنا الحاضر في فيلم؛ فيجيب متأملاً: "يمكنني القول، من دون أن أفسد متعة مشاهدة الفيلم، إنّ طبيعة الحكايات التي تعبّر عن الغربة في حياة الثقافة العراقية فرضت أمكنة ومواقع التصوير. فغربة شخصيات مثل "مسعود عمارتلي" تفرض تصوير منطقة الأهوار، وغربة "جعفر لقلق زادة" تفرض تصوير التياترو القديم في العهد الملكي. وهذا ما أقصده بتنوع أمكنة التصوير. إن معرفتي العلمية بالتمثيل تساعدني كثيرا في إخراج الممثل من نمطية الأداء. فالشخصيات عندي طبيعية وتتحدث كما نراها بوعينا، لا كما هي، وذلك لنخرج السينما من الصورة الفوتوغرافية، وهو ما أسميه "سينما المشهد".
توفرت للمخرج العراقي على الدوام ميزانيات معقولة، وهذا ما ساعده في إنجاز أفلامه، في عهدي "صدام حسين" و"نوري المالكي" على السواء: "عادةً يعمل معي فنانون مبدعون لا يشعرون بأنهم إزاء تجربة مادية أو نفعية. لقد أعطت وزارة الثقافة العراقية ممثلة بدائرة السينما والمسرح، ميزانيات مفتوحة للمخرجين الآخرين. ولم تصل ميزانية فيلمي إلى نصف ميزانية أفلامهم، علماً أن عدد شخوص فيلمي ومواقع التصوير أقل بكثير مما لديهم! ومع أنّ النظام السابق تدخل في أحداث فيلمي "بيوت في ذلك الزقاق"، بيد أنني أصررت على عدم تغييره. لكن الوزارة الحالية لم تفرض عليّ أية شروط في فيلمي الجديد، وأعتقد أن على العراقيين أن يشاهدوا الفيلم ليتعرفوا إلى فكرة الوطن، وفكرة الحرية، وغربة المثقف في الوطن، كي يدركوا أن خرابه يعني خراب الثقافة، وأنّه بسقوط الثقافة يسقط الوطن".
أحد أهم مشكلات السينما العراقية هي الموسيقى، فهل تلافى المخرج هذه المشكلة؟ يقول "حوّل": "عادةً تكون الموسيقى في الفيلم العربي طرباً، أو موسيقى سد الفراغ، وهو ما يؤدي إلى تعطل مهمة الفيلم السينمائي. في فيلمي الأخير كنت بحاجة إلى جملة موسيقية واحدة تؤخذ من أغنية موجودة في الفيلم، وما فعلته هو إعادة "مَوْسَقتها" مرة بعزف منفرد، ومرة مع خلفية ذات بُعد سيمفوني، مع الصديق حميد البدري الذي جاء من أميركا ليعزفها لي على السكسوفون مع خلفيات ذات بُعد شرقي تارة، وسيمفوني تارة أخرى، وقد استخدمناها لفكرة الزمن والموت. وأظنها كانت ناجحة، وتجربة جديدة في السينما العراقية".
أثار فيلم "المغني" (2009) جملة من ردود الأفعال، بين مؤيد وبين رافض (تمويل فرنسي). وعن هذا يقول "حوّل": "لم يكن ثمة خلاف على أهمية الفيلم في السينما العربية. الخلاف كان بين عشاق الدكتاتور العراقي وكارهيه. فـ"المغني" يكشف رعونة النظام، ما أثار غضب مخابراته حينها". وحين نشير إلى أن الاعتراض على الفيلم ارتكز على طريقة عرض الدكتاتورية فيه التي لم تكن منطقية، يقول "حوّل": "ربما تكون ملاحظتك جديرة بالاهتمام. لكن المبالغة جاءت من أجل تصوير هول ما حدث للعراقيين".
ظلّ "حوّل" على انتقاده لعدم وجود بنية تحتية للسينما في بلد يزخر بالموارد والخيرات، وكان طموحه أنّ التغيير سيسعى إلى بناء هذه الأرضية: "الدولة العراقية سائرة نحو التفكك، وتقودها عقليات متأخرة، ولا أظنّ أننا سنرسو عند حلم الثقافة السينمائية. ذلك يحتاج إلى دولة عصرية ومتحضّرة، والدولة العراقية الحالية أبعد ما تكون عن هذا. فمؤسسات الدولة الآن دينية، والدين بالمفهوم المتخلف هو قوالب جاهزة ومصنوعة تقف بالضرورة ضد التقدم والتنوير".
وحين نلاحظ أن الفيلم العربي عامة، والفيلم العراقي على وجه الخصوص، لا يزال أسير المهرجانات ولا يُعرض في الصالات التي هجرها الجمهور، يقول المخرج: "المهرجانات السينمائية العربية، وبشكل خاص الخليجية منها، بحاجة إلى وقفة موضوعية نقدية تتمثل في قراءة واعية للتجربة، وتشخيص مواقع الخلل فيها. فالمهرجانات العربية تغصّ بالأميين والمنتفعين، وتنتبه للسجادة الحمراء لا إلى من يمشي فوقها". ويضيف: "أن يكون لديك مهرجان ثقافي متفوق شيء، وأن تتعمد البهرجة والاستعراض شيء آخر. ثمة خلل في إنتقاء الأفلام، وخلل في انتقاء المدعوين (الأصحاب وما شابه)، وخلل في اختيار لجان التحكيم. لكنّ مهرجانات السينما المغاربية أكثر أصالة لأنّها قائمة على أسس ثقافية وليس على الإغراء وصرف الأموال جزافاً".
يؤكد "حوّل" أنّ حقوق عرض فيلمه "بغداد خارد بغداد" تعود إلى وزارة الثقافة العراقية، ممثلة بدائرة السينما والمسرح التي ينظر إليها كمؤسسة "لا تزال على صورتها القديمة التي أنشأتها الدكتاتورية، وهي صورة مشوهة للثقافة العراقية، وللثقافة السينمائية"، باعتبار أنّ "الدولة العراقية السابقة هي دولة شمولية المنهج، وقد زجت فيها عناصر ذات هوس نفعي محض. وهذه الخامات البدائية لا تزال في دوائر الدولة عموماً، وهي مجاميع مخربة لا تريد اليوم لسينما حقيقية أن تنهض، لأن نهوضها يكشف حقيقتهم. ومن هذا المنطلق أنجزت دائرة السينما والمسرح سينما تتماشى مع النهج الماضي دون أي حساب لفكرة التغيير".