في معرضه الذي يحمل عنوان "استمرارية الإصلاح: نور سُلَّم يعقوب"، الذي تستضيفه غاليري "وايت شابل" اللندنية، يحيلنا الفنان الجزائري الفرنسي قادر عطية (1970) إلى إحدى قصص "سفر التكوين" التي تتحدث عن النبي يعقوب بن إسحق.
وفي السفر المذكور، يستخدم يعقوب الحيلة والمكر ليحصل على بكورية أخيه الأكبر عيسو، بمباركة أبيه اسحق، ثم يذهب في رحلة هرب من بطش أخيه نحو حاران. وفي الطريق يصادف مكاناً فسيحاً فيضطجع أرضاً وينام متوسِّداً حجارة كبيرة، فيرى سُلّماً يصل بين السماء والأرض، ويرى ملائكة الرب صاعدين وهابطين عليه، ويرى الرب ماثلاً أعلى السُلّم مجزلاً له العود.
وبالعودة إلى تصوير تلك الرؤيا في الفن (بعيداً عن الاستغلال السياسي اللاحق للميثولوجيا التوارتية من قبل الحركة الصهيونية) سنجد الملائكة في لوحة لرامبرانت أشبه بأطفال مجنحين يتحرشون بيعقوب أثناء نومه، بينما سنجدهم عند ويليام بليك كحورياتٍ ملونةٍ جميلة يصعدن السُلم ويهبطنه. أما لدى غوستاف دوريه فيبدو الملائكة بهيئة باهتة لممثلين لامعين على شاشة فضية.
إحدى اللوحات التاريخية لـ"رؤيا يعقوب" التي ضمها المعرض |
باستثناء ما سبق، ابتعدت عناصر المعرض المحتشد ـ التي تنوعت بين رفوف هائلة من الكتب، ولوحات فنية، وأدوات فلكية قديمة، وتماثيل نصفية لعلماء وفنانين ـ عن أي أثرٍ لرؤيا يعقوب؛ إذ يبدو أن الفنان قد آثر أن يتخذ منها معادلاً موضوعياً لفكرة السلّم الواصل بين السماء والأرض، فتعمّد صف الكتب في خزانة شاهقة بطول الحائط تتضمّن عدداً ضخماً من الرفوف التي بدت كدرجات سُلَّمٍ تقودنا الكتب المصطفة عليه إلى الأعلى. وكأن عطية أراد أن يقول لنا إن كل ما استطاعت البشرية إنتاجه من كتب علمية وفنية ودينية وأدوات فلكية، ما هي إلا محاولة للنظر إلى البعيد الذي يحرّك العالم من وراء النجوم.
يجسّد معرض عطية بكل ما ازدحم به من عناصر درجات ذلك السلّم اللانهائي الذي تتوق البشرية، منذ طفولتها، إلى مدٍّه إلى السماء، وطموح الإنسان المستعر إلى منْطَقَةِ الكون، والرغبة اللامتناهية في معرفة المزيد.
وما يدعم تلك المقاربة هو ذلك التركيب الذي يتوسط الصالة الرئيسية للمعرض ويتكون من خزانة مربعّة مغلقة على عددٍ من الكتب والمناظير الفلكية الموجّهة إلى السماء، ينتهى أحد جوانبها بسلّمٍ تقود درجاته إلى فتحة مربعة في السقف، محاطة من جميع جوانبها بالكتب، وتقود النظر إلى درجات سلّم آخر يقود إلى أعلى لامتناهٍ تتعذّر رؤيته.
الطوب غير المطلي للخلفية الجدارية لصالة المعرض الرئيسية، وأصوات الحفر والبناء؛ شكَّلا إحالة جبرية لمفهوم استمرارية الإصلاح (الشق الأول من عنوان المعرض) كما عبَّر عنه الفنان بوضعه جنباً إلى جنب تأملات الفلكيين العرب، واستنتاجات غاليليو وكابلر، ورسومات تقريبية لمجموعات نجمية تعود إلى عام 1871، ورسومات أخرى لأحد المذنبات تعود إلى عام 1884.
براعة عطية في نسج عناصر هذا المعرض المزدحم وترتيبها بذكاءٍ بالغٍ، تعدَّت فكرة التأكيد على وظيفة الإنسان الأبدية كمصلحٍ لسوء تفسير الظواهر الكونية؛ إلى الاستهزاء بقدرته على بناء نفسه أو اختراع شيء من العدم.
Whitechapel Gallery, 77-82 Whitechapel High St, London E1 7QX