قائدات صغيرات

21 يناير 2015

عينان في بيت لاهيا إبّان العدوان الإسرائيلي (8 يناير/2015/الأناضول)

+ الخط -
في الأيام القليلة الماضية، وعلى الرغم من الأحوال الجوية السيئة، إلا أن حركة نشطة كانت تدب في بيوت الغزيين، فأفواج من التلاميذ الصغار كانوا يفدون إلى بيوت فتيات، خريجات كليات التربية خصوصاً، لتلقي دروس خصوصية في مختلف المواد، استعداداً لامتحانات الفصل الأول. وذلك تحت إشراف الآباء الباقين في البيوت بلا عمل، والأمهات اللواتي يستقبلن التلاميذ الصغار، ويهيئن الأجواء المناسبة لبناتهن الخريجات اللواتي لم يظفرن بوظائف حكومية، ليشرحن الدروس لهؤلاء التلاميذ، ويحصلن على أجرة بسيطة، تساعد العائلة التي لا يعمل عائلها الأساسي في بعض تكاليف الحياة.
لم يعد غريباً ولا مستهجناً أن تصبح فتيات بعض العائلات القائدات اللواتي يدرن أمور حياة أسرهن، بفضل التحاقهن في مهنٍ، لا يتلقين منها رواتب مجزية مقابل شروط عمل مرهقة لدرجة التعسف.
التقيتها في عيادة طبيب الأسنان، حيث كانت تقوم بتسجيل أسماء المرضى، وتمسك بكتاب بيد رقيقة مرتجفة، تنظر فيه بين فينة وأخرى، ما لفت انتباهي، فسألتها إن كانت طالبة جامعية، وكأنما كانت تنتظر أن يسألها أحد عن حالها لتتكلم، فقالت في صوت مرهق: منذ أنهيت الثانوية العامة، قرر والدي أن أخرج للعمل لأنفق على نفسي وتعليمي، وكان قد فقد عمله عامل بناء داخل "إسرائيل"، ونحن ست بنات بأعمار متقاربة، وهكذا لم يجد أبي حلاً سوى أن تلتحق كل منا بأي عمل، بمجرد إنهائها الثانوية العامة لتنفق على تعليمها الجامعي، وتساعد في مصروفات البيت، فعملت موظفة في محل لبيع الملابس، ثم سكرتيرة هنا، وراتبي الشهري  300 شيقل إسرائيلي (80 دولار)، أنفق منه على نفسي، وأساعد شقيقتي الصغرى التي تدرس في الثانوية العامة هذا العام، فأمنحها جزءاً منه لتحصل على دروس خاصة. ولذلك، أذهب إلى الجامعة مشياً حتى في عز المطر، وأعود منها كذلك وبأقصى سرعتي لأتوجه إلى العيادة، فأقوم بتنظيفها وأستقبل المرضى قبل حضور الطبيب، وأستمر في عملي حتى المساء، كي تمر شقيقتي الكبرى العائدة من عملها في محل لبيع هواتف نقالة لتصحبني إلى البيت. ولا أتناول سوى ساندويتش فلافل طول النهار، وحين أعود إلى البيت أتناول وجبة واحدة، وأكمل ما بدأت دراسته في العيادة، ثم أنام.
كانت تبدو مرهقة ومتعبة، والواضح أنها تعاني من نقص في العناصر الغذائية الأساسية، فبشرتها شاحبة وأنفاسها متلاحقة، ولم تفلح طبقة من البودرة الرخيصة أن تخفي سوء تغذيتها، على الرغم من أنها في العشرين من عمرها.
أدى عمل الفتيات الغزيات لإعالة أسرهن إلى تأخر سن زواجهن إلى ما بعد الثامنة العشرين، وانضمام كثيرات إلى فئة العوانس، إذا كنا نتبع تصنيف منظمة "الأسكوا" أن مرحلة "العنوسة" تبدأ للفتاة في سن الثامنة والعشرين ونصف، وأعلى نسبة منهن يعملن في محلات بيع الملابس النسائية. وكان المجتمع الغزي قبل الحصار لا يقبل لفتياته العمل سوى في مهن محددة، مثل التعليم والتمريض وحضانات الأطفال ومصانع النسيج التي توقف عملها بسبب الحصار، وكان يعمل فيها فتيات لم يكملن تعليمهن، في خياطة أقمشة ترد من "إسرائيل"، ثم تورد إليها ثانية، وتسوق كمنتجات إسرائيلية خالصة.
على شاطئ بحر غزة، كانت تبيع الفستق، أطلق عليها ابني سريعاً اسم "موناليزا فلسطين"، لجمالها الحزين، وحين حاول مداعبتها وسألها بالانجليزية عن نوع بضاعتها، أجابته بإنجليزية سليمة. وحين كنا منبهرين بها، أشارت إلى الهاتف الذكي بيد ابني، وقالت له: هل تسمح لي أن ألعب لعبة" subway"؟ وحين كانت تلهو به تحدثت بأسى عن الحرب التي أفقدت والدها أطرافه، وجعلتها تنزل الشارع لبيع الفستق بدلاً منه، بعد عودتها من المدرسة.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.