في نقد التطرف

16 أكتوبر 2014

عمل بصري لـِ"غاري واتر"

+ الخط -
يطرح مشكل تنامي الإسلام الجهادي بأسمائه الحركية المتعددة، مطلب المواجهة بالتنوير والنقد، حيث لا يمكن أن تحول جماعات معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي جامد.

تتجاوز التجربة الروحية في الإسلام الأحكام النمطية المحفوظة في تراثٍ، لا يعدو أن يكون جزءاً من تاريخ لم ينته. لهذا السبب، نرى أن صور التوظيف السياسي للإسلام تتماهى مع أشكال المحفوظات التقليدية التي تنتشر، اليوم، في ثقافتنا، وفي مجالنا التربوي والسياسي، وأن استمرار وجودهما معاً يعود إلى عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا.

لم نتمكن من ترسيخ قيم الاجتهاد في فكرنا المعاصر، ولم نبن الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على تركيب تصورات جديدة للعالم، تتيح لنا استيعاب مقدمات الحياة الجديدة وأصولها في عصرنا. ولعل أخطر ما فعلته التيارات المعادية لقيم العصر في فكرنا مساعيها الرامية إلى استبعاد إمكانية تصالحنا مع العالم، مستندةً، في ذلك، إلى تصورات ومبادئ، لا علاقة بينها وبين الإسلام في جدليته التاريخية الحية.

تزداد معركة التنوير في فكرنا العربي، وفي واقعنا السياسي، بحكم تعقد مجال التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، والإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، وإسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، ثم الإسلام المتشبع بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، فنصبح أمام شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنية هذه الشبكة المركبة، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصرة.

وقبل توضيح طبيعة هذه المسؤولية وآفاقها، في مجال تطوير الفكر العربي والمجتمع العربيين، نشير إلى أن تيارات الإسلام السياسي تعمل في إطار الشبكة المذكورة على تركيب استقطابات براجماتية، تجاوزت فيها الآليات التاريخية المعروفة في مجال التنظيم الحزبي الحديث.

نستطيع أن نعاين ونرصد داخل الأخطبوط المشار إليه، آنفاً، أن بعض رجالاتها يرتبطون بمنابر المساجد، المفترض أنها موصولة بالنظام السياسي الحاكم في بلدانها، وبعض أطرها تشتغل في المجال الدعوي، بمعايير العمل التربوي الخلقي، وتنخرط أخرى في أحزاب سياسية، قد لا تضع بالضرورة في بعض الساحات السياسية العربية لافتة العمل السياسي الديني على اسمها الحركي المعلن.

لا نبالغ في رسم معالم هذه الصورة، بل إننا عندما نضيف إلى كل ما سبق تعولم الإسلام السياسي، حيث نلاحظ تزايد الاستقطاب الحاصل بفعل التشبيك الافتراضي، نُصبح أمام شبكة فعلية تُشيع في العالم لغةً لا ضابط لأبعادها، حيث تختلط الوقائع والمعطيات بالصور والرموز، ويتحول البشر إلى أحزمةٍ من المتفجرات متطايرة الشرر في جهات عديدة من المعمورة، ولا يظل الإسلام عنواناً للسلام والتسامح والعقل، بل يصبح في تصور بعض هذه التيارات آلة حربية متعددة الرؤوس. وهو ما يزيد حاجتنا الفعلية لقيم التنوير وسماحة الروح وأخلاق العقل ولغة التاريخ.

نحن نعتبر أن الإسلام، في تاريخه النصي والحدثي، أكبر من الأحكام والفتاوى المحافظة، إنه جهد في التاريخ، مشدود إلى المطلق. لهذا السبب، نربطه بالاجتهاد والاستنارة. وفي ضوء هذا الموقف، نرى أنه ينفر من قيم الموت والقتل والتخريب والانغلاق والتزمت، ليحرص، بدل ذلك كله، على إشاعة قيم الحياة، قيم توسيع مساحة مكانة الإنسان والعقل في التاريخ.

لا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في العالم العربي، اليوم، بعملية نسخ، ولا نقل، لتجربة تمت في التاريخ، والأنوار ما تزال مطلباً كونياً بامتياز، ذلك أن قيم عصر الأنوار التي نشأت في سياق تاريخي محدد، في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، تتعرض، اليوم، لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي، وسياقات تاريخها الكوني، بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية في كثير من مظاهرها وتجلياتها.

ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الاجتهاد في فكرنا، وفي كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا ما كنا نعرف أن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي إلى إبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره، بهدف فك مغالق الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله.

إن حاجتنا اليوم لقيم التنوير لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقلٍ، تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالاً للجهد الذاتي الخلاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ التي تتيح لنا الخروج من مأزقٍ موصولٍ بإرث تاريخي، لم نتمكن من تشريحه ونقده، تمهيداً لإعادة بنائه في تجاوب مع متطلبات عصرنا.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".