31 مايو 2017
في نقد الاستراتيجيّة الإعلاميّة السعودية تجاه العراق
يبقى التاريخ متناغماً على الدوام. يحمل منطقه الداخليّ الفظّ، ويلوّح لنا به بطريقةٍ قاسيةٍ لعوب. صحيح أنّه لم يعد يكرّر نفسه هذه الأيّام، لكنّه ما زال يلعب علينا واحداً من أدواره الساخرة. ففي غفلة من الزمن، وجَدَت المملكة العربية السعودية نفسها، الدولة العربيّة القديمة العهد التي كانت الولايات المتحدة الأميركية تصفها دومًا بالصديقة، أمام المهمة الطارئة التي لا مفرّ منها، وهي قيادة الأمّة العربية بمكوِّناتها كافةً من أجل التصدّي للتحالف الاستعماري الأميركي - الإيراني القائم اليوم. لم يعد أعداء الأمّة العربيّة يخجلون من نياتهم التي انتقلت الى العلنيّة. بات هؤلاء يستهدفون السعودية صراحةً وعلى رؤوس الأشهاد، ومن خلال الألسن التي تلثغ بالراء. وما هذا سوى منطق التاريخ الذي لا يرحم حتى يصل إلى درجة السنيكيّة الخالصة. صحيح أنّ العراق ارتكب خطأ كبيرًا عندما غزا الكويت عام 1990. لكن بعدها، جرت سلسلةٌ من الخطايا التاريخيّة الأكبر بما لا يقاس، ارتكبتها حكوماتٌ (ونخبٌ وأحزابٌ) عربيّة بالجملة بحقّ العراق والأمّة جمعاء، من دون أيّ حساب لتبعات ذلك على الأمن القومي العربي، وكانت السعودية من ضمنها. حكومات عربيّة شقيقة فيما بينها سوّغت حصار العراق الحكومات الغربية الاستعماريّة وسوغته اثني عشر عاماً، ما أدّى إلى استشهاد أكثر من مليون طفل عراقي. ولكن على الرغم من فظاعته الرهيبة لم يكن ذلك الحصار سوى تحضيرٍ طويلٍ لغزوٍ إمبريالي أميركي، غرضه تدمير بوّابة عربية شرقية، تجريف دولة وشعب طالما وقفا سدًّا منيعًا أمام طموحات إيران التوسّعية. إنّها إيران نفسها التي كشف، أخيراً، سفير الولايات المتحدة إلى العراق بين عامي 2005 و2007، زلماي خليل زاده، أنّ الأميركيين رتبوا ونسقوا غزوهم مدينة السلام معها قبل عام 2003 ("نيويورك تايمز" 3 مارس/ آذار 2016). والآن، بعد أن أصبح العراق محض مستعمرة مليشياوية خاضعة لإيران، عادت الخطايا لتنتقم من أصحابها "ليبقى التاريخ كابوساً نحاول أن نهرب منه"، على حدّ قول شخصيّة ستيفن في رواية جيمس جويس.
"الإكليروس" الإيراني ومرشدهم الأوحد ومختلف وكلائه في المستعمرات العربية يهدّدون السعودية على مدار الساعة. وكانت إدارة أوباما "الصديقة" هي من قام بتمويل هؤلاء بدولاراتها، وما تزال، من خلال ما سمّي "الاتفاق النووي" الذي اتضح أنه لم يكن سوى كذبة كبيرة على الشعب الأميركي ("مجلة نيويورك تايمز"، 5 مايو/ أيار 2016). تكرّ وتتعدّد بعدها سبحة الأعمال العدائية بحقّ المملكة، ومنها حرق سفارتها في طهران، واللافتات التي رفعتها حكومة المنطقة الخضراء في بغداد تحرّض فيها على السعوديّة، وتشتمها على أنّها "الشجرة الملعونة". وفي اليمن حيث تفتخر مليشيات الحوثي ورجال علي عبد الله صالح أنّهما يطلقان صواريخ إيرانية على جنوب السعودية، وصولًا إلى خطاب خامنئي قبل موسم الحجّ هذه السنة، والذي يمكن اختصاره "نريد تدمير السعودية".
في وضعٍ كهذا، على جميع طاقات الأمّة أن تُستنفر، وليس فقط الحكومة السعوديّة. نعني بهذا
حكوماتٍ وأحزابًا وأفراداً. هذا وحده يحتاج أخذ قرار ببدء ما لا يقلّ عن كونه حرب تحرير قوميّة مضادّة للاستعمار. ولكن، كما في أيّة حربٍ، يحتاج الأمر أكثر ما يحتاج إلى قيادة وانسجام إعلامي مع أهداف القيادة السياسيّة، لذا، مهما كانت الأخطاء التاريخية التي اقترفها العرب سابقًا في حقّ بعضهم، فإنّ الآن هو وقت وضعها جانبًا، والالتفات إلى تنسيق الجهود بشكل عملي وكلّي. وإذا ما فحصنا الخيارات الموجودة حول من يمكنه أن يقوم بالمهمة القيادية أمامنا، نجد، مثلاً، أنّ مصر جمال عبد الناصر التي توحّدت مع سورية في فبراير/ شباط من عام 1958، في محاولةٍ جديّة للوصول إلى الوحدة العربية الكبرى، بات يحكمها سيسيٌ مشغول بالتقرّب من "صديقه" السفّاح بوتين، ويحلم في أوقات فراغه بأن تكون أميركا راعية له، خصوصًا أنّه بات من أصدقاء النظام السوري الذي يشنّ حربًا على شعبه منذ خمس سنوات، ويرسل وزير خارجيته، سامح شكري، إلى المنطقة الخضراء في بغداد، للتباحث هناك حول "التعاون لمكافحة الإرهاب" (أهرام أونلاين، 3 يوليو/ تموز 2016). لذلك، موضوعيًّا خيار قيادة السعوديّة الامّة العربيّة الآن منطقي، خصوصًا أنّ الأخيرة تحاول أن تتصدّى لإيران بأكثر من طريقة، وعلى أكثر من مستوى، بدءا من تقدّم التحالف العربي في اليمن، ووصولًا إلى لبنان وإعلان حزب الله تنظيمًا إرهابيًّا.
من أجل ذلك كله، يجب أن يرتفع الالتزام العربي بالدفاع عن الأمّة ليصبح مبدأ استراتيجيًّا كاملًا، يهمّه أن يعوّض عن الماضي، قبل أن ينظر الى مستجدّات الحاضر فقط. وبتعبير آخر، لا يجب على استراتيجية الحرب أن تكون دفاعيةً بحتةً، تحاول أن تبقي على ساحات "جديدة" تحاول إيران أن تسيطر عليها (اليمن، البحرين)، بل يجب أن تكون استراتيجية هجوم بقصد الدفاع، وذلك بالتحديد في ساحاتٍ تعتبرها إيران من حكم المكتسبات "الطبيعيّة"، كالمستعمرة العراقية. من هنا، على المملكة السعوديّة وإعلامها مراجعة أدائها تجاه العراق و العراقيين الذين يحاولون أن يتصدّوا للهيمنة الإيرانية، والتذكّر جيّدًا أنّ العراقيين هم أكثر العرب خبرةً في مواجهة إيران. يجب أن يُقال هذا، حتى لو أنّ الأداء السعودي تحسّن كثيرًا بشأن العراق، خصوصًا منذ مجيء السفير ثامر السبهان إلى بغداد، غير أن الدبلوماسيّة شيء والمعركة الإعلامية شيء آخر، بحيث أنّ الانسجام مع القيادة السياسيّة في الساحة الإعلامية السعودية مفقود تمامًا في شأن العراق. الانطباع الذي يتركه الإعلام السعودي، والخاص أكثر من الرسمي، هو أنّ السعوديّة "مسامحة بالعراق". أو لنقل إنّ السعوديّة تبدو أقلّ اهتمامًا بكثير في تحدّي الدعاية الأميركية -الإيرانية في العراق على المستوى العربي، على خلاف ما تقوم به في اليمن مثلاً. صحيح أنّ الأمور موضوعيًّا صعبة على المملكة، من ناحية الأدوات، خصوصًا بعد أن نجح الأميركيون في جعل العرب يتركون العراق كل هذه الفترة، لكي تبلعه إيران. لكن، في لحظة المراجعة التاريخيّة هذه، من غير المفهوم، مثلاً، أن نرى الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، تركي الفيصل، يشارك في باريس، والمعارضة السورية في مهرجانٍ للمعارضة الإيرانية، ولا نرى السعودية تقيم مهرجانًا قوميًا عربيًّا للأحزاب والشخصيات التي تعارض الاستعمار الإيراني، ويشارك فيه ليس فقط المعارضون السوريون، بل أيضاً العراقيون واليمنيون وغيرهما.
يتبدى هذا القصور الإعلامي فاضحاً، عندما نشاهد قناةً كالعربيّة تهلّل "للتحضيرات من أجل
تحرير الموصل"، بينما يعني هذا "التحرير" قصفًا وحشيّا، يستهدف المدنيين في مدينةٍ تعدادها مليونا نسمة، من دون أن نرى سوى ترديدٍ لدعاية الحرب الأميركية -الإيرانية على العرب "السنّة" في العراق باسم " الحرب على داعش". تعني الطريقة التي يتعامل بها الإعلام السعودي مع العراق واحداً من أمرين: إمّا أنّ القيادة السعودية تترك أداءً إعلاميّاً كهذا نافذة مفتوحة عن قصد، اعتقادًا منها أنّ ذلك قد يعود عليها بالنفع، فيقنع الإدارة الأميركيّة المقبلة بأنّ من يمكن العودة إلى زمن "الصداقة" القديم، مع كل جبنه العربي الذي نحصد نتائجه الآن. وهذا وهم سندفع ثمنه غاليًا، لأنه خاسر سلفًا أولًا، إذ أنّ "الإستابليشمنت" الأميركي، بتياره الأوبامي، هو الذي يستهدف السعودية من خلال إيران، وهو ماضٍ في ذلك. ولأن هذا يبعد عن المملكة جزءاً كبيرًا من العراقيين والعرب الذي لا يفهمون علامات التخليّ عنهم التي يرونها كل الوقت على شاشات الإعلام السعودية، ونصوص إعلامه المكتوب. أو إنّ هناك عدم قدرة لدى القيادة السعودية في التحكّم بالسرعة الكافية بماكيناتها الإعلامية المتخمة بأيدولوجيين مناهضين للمصلحة القوميّة العربية، لأسباب بيروقراطية، أو صراعات داخلية في التأثيرات في مراكز السلطة، أو لأسباب لا نعلمها تماما. في الحالتين، لا يجب أن يكمل الأمر على هذا النحو. إنّما في هذا دين مستحقّ...للعراق وللعراقيين.
"الإكليروس" الإيراني ومرشدهم الأوحد ومختلف وكلائه في المستعمرات العربية يهدّدون السعودية على مدار الساعة. وكانت إدارة أوباما "الصديقة" هي من قام بتمويل هؤلاء بدولاراتها، وما تزال، من خلال ما سمّي "الاتفاق النووي" الذي اتضح أنه لم يكن سوى كذبة كبيرة على الشعب الأميركي ("مجلة نيويورك تايمز"، 5 مايو/ أيار 2016). تكرّ وتتعدّد بعدها سبحة الأعمال العدائية بحقّ المملكة، ومنها حرق سفارتها في طهران، واللافتات التي رفعتها حكومة المنطقة الخضراء في بغداد تحرّض فيها على السعوديّة، وتشتمها على أنّها "الشجرة الملعونة". وفي اليمن حيث تفتخر مليشيات الحوثي ورجال علي عبد الله صالح أنّهما يطلقان صواريخ إيرانية على جنوب السعودية، وصولًا إلى خطاب خامنئي قبل موسم الحجّ هذه السنة، والذي يمكن اختصاره "نريد تدمير السعودية".
في وضعٍ كهذا، على جميع طاقات الأمّة أن تُستنفر، وليس فقط الحكومة السعوديّة. نعني بهذا
من أجل ذلك كله، يجب أن يرتفع الالتزام العربي بالدفاع عن الأمّة ليصبح مبدأ استراتيجيًّا كاملًا، يهمّه أن يعوّض عن الماضي، قبل أن ينظر الى مستجدّات الحاضر فقط. وبتعبير آخر، لا يجب على استراتيجية الحرب أن تكون دفاعيةً بحتةً، تحاول أن تبقي على ساحات "جديدة" تحاول إيران أن تسيطر عليها (اليمن، البحرين)، بل يجب أن تكون استراتيجية هجوم بقصد الدفاع، وذلك بالتحديد في ساحاتٍ تعتبرها إيران من حكم المكتسبات "الطبيعيّة"، كالمستعمرة العراقية. من هنا، على المملكة السعوديّة وإعلامها مراجعة أدائها تجاه العراق و العراقيين الذين يحاولون أن يتصدّوا للهيمنة الإيرانية، والتذكّر جيّدًا أنّ العراقيين هم أكثر العرب خبرةً في مواجهة إيران. يجب أن يُقال هذا، حتى لو أنّ الأداء السعودي تحسّن كثيرًا بشأن العراق، خصوصًا منذ مجيء السفير ثامر السبهان إلى بغداد، غير أن الدبلوماسيّة شيء والمعركة الإعلامية شيء آخر، بحيث أنّ الانسجام مع القيادة السياسيّة في الساحة الإعلامية السعودية مفقود تمامًا في شأن العراق. الانطباع الذي يتركه الإعلام السعودي، والخاص أكثر من الرسمي، هو أنّ السعوديّة "مسامحة بالعراق". أو لنقل إنّ السعوديّة تبدو أقلّ اهتمامًا بكثير في تحدّي الدعاية الأميركية -الإيرانية في العراق على المستوى العربي، على خلاف ما تقوم به في اليمن مثلاً. صحيح أنّ الأمور موضوعيًّا صعبة على المملكة، من ناحية الأدوات، خصوصًا بعد أن نجح الأميركيون في جعل العرب يتركون العراق كل هذه الفترة، لكي تبلعه إيران. لكن، في لحظة المراجعة التاريخيّة هذه، من غير المفهوم، مثلاً، أن نرى الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، تركي الفيصل، يشارك في باريس، والمعارضة السورية في مهرجانٍ للمعارضة الإيرانية، ولا نرى السعودية تقيم مهرجانًا قوميًا عربيًّا للأحزاب والشخصيات التي تعارض الاستعمار الإيراني، ويشارك فيه ليس فقط المعارضون السوريون، بل أيضاً العراقيون واليمنيون وغيرهما.
يتبدى هذا القصور الإعلامي فاضحاً، عندما نشاهد قناةً كالعربيّة تهلّل "للتحضيرات من أجل