في مشهد تونس السياسي

15 نوفمبر 2014
+ الخط -

أفضت نتائج الانتخابات التونسية إلى تحديد القوتين الرئيسيتين في المشهد السياسي، ونعني حركة النهضة وقوى نظام بن علي، وبغضّ النظر عن عدد المقاعد التي حصل عليها كل طرف، فإنها عبّرت عن مزاج الناخبين في لحظةٍ تاريخيةٍ ما، وهو ما يمكن تلمسه في جملة من الاستنتاجات العامة التي تساعد على فهم الصورة العامة، الناشئة بعد الانتخابات البرلمانية في تونس، حيث تمكن الإشارة إلى جملة نتائج يمكن توصيفها على النحو التالي:

ـ استفادت قوى النظام القديم من حالة التوجس التي سادت جزءاً من الشارع التونسي للصعود انتخابياً، حيث لا يمكن إنكار حالة التخوف التي سوّقها الإعلام المتحالف مع القوى الحزبية الموالية للنظام القديم لدى الرأي العام، خصوصاً قضايا العنف السياسي والإرهاب، ودفع قسم مهم من الناخبين إلى المراهنة على الأولوية الأمنية، قبل التفكير في قضايا الحريات، وهو أمر له أثره، وسط محيط إقليمي، يسوده العنف والفوضى، خصوصاً وقد قدم زعماء "نداء تونس" أنفسهم بوصفهم الأقدر على التعامل مع القضايا الأمنية، على الرغم من أن المتأمل في حقيقة المشهد يدرك أن ما عرفته تونس من عنف منظم ليس من الخطورة التي صورتها بعض وسائل الإعلام.

ـ اشتغلت الآلة الحزبية للنظام القديم، ووظفت شبكات نفوذها التقليدي داخل الإدارات والمؤسسات، وأيضاً، في بعض الأوساط الاجتماعية، بالإضافة إلى توظيف المال السياسي بشكل واضح، ضمن سياق عام سمح لهذه القوى باستعادة أنفاسها، في ظل ديمقراطية تونسية ناشئة، قامت على عدم الإقصاء أو المحاسبة، ومنحت الفرصة للجميع لإعادة التنظيم والهيكلة من جديد.

ـ نجحت قوى النظام القديم في تجميع شتاتها، وتركيز أصواتها الناخبة، لتضخ لحزب واحد، هو "نداء تونس" في مقابل التشتت الواضح للقوى الثورية والحزبية، الناشئة ما بعد الثورة، وهو ما يفسر نتائجها الضعيفة، بالإضافة إلى سوء إدارتها الحملة الانتخابية.

ـ تمكّن التيار الإسلامي، ممثلاً في حركة النهضة، من الحفاظ على الجانب الأكبر من رصيده الانتخابي، على الرغم من تجربة الحكم الصعبة التي خاضها مع شركائه في الترويكا، والتي تسببت في فقدان جزء من ناخبيه، سواء الذين قاطعوا الانتخابات أو ممن صوتوا لقوائم صغيرة، وعلى الرغم من حلوله في المرتبة الثانية، إلا أنه يظل رقماً صعباً في العملية السياسية، بغض النظر عمن سيتولى الحكم، ويدير المرحلة المقبلة.

ـ عرفت القوى السياسية المنتسبة إلى ما يمكن تسميته التيار الديمقراطي الاجتماعي، مثل الحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي وحزب التكتل وحزب المؤتمر، تراجعاً انتخابياً لافتاً، يمكن تفسيره من خلال حالة التشظي التي عرفتها، وعجزها عن بناء تحالف انتخابي، على الرغم من تقاربها في البرامج والأهداف، وإذا كان حزبا "التكتل" و"المؤتمر" قد تعرضا لما يمكن وصفه التصويت العقابي، بالنظر إلى مشاركتهما في الحكم في الفترة الانتقالية، غير أن باقي القوى (الجمهوري والتحالف) دفعت ثمن تذبذب المواقف، وعجزها عن تقديم خطاب سياسي مناسب للمزاج العام للناخب، حيث ظلت تراوح مكانها، من حيث هي مجرد واجهة حزبية، من دون حضور فعلي على الأرض.

ـ تمكنت قوى حزبية صغيرة من الصعود جزئياً، ونعني بها أحزاب الاتحاد الوطني الحر وحزب آفاق وحزب التيار الديمقراطي، وعلى الرغم من اختلاف عوامل هذا التقدم الانتخابي، إلا أنه يمكن القول إنها نجحت في التأثير على قطاعات من الناخبين، وإقناعها بالتصويت لصالحها.

وبغض النظر عن المنطق الحسابي، ورهانات الربح والخسارة، لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الاستقرار، بصورة نهائية، بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب (ربما باستثناء ناخبي التيار الإسلامي)، مما سيفضي، مستقبلاً، إلى تجمع القوى المتقاربة، إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي، كما أن تجربة الحكم المقبلة التي ستظهر مؤشراتها، بعد تشكل الحكومة المقبلة، لن تكون سهلة، بالنظر إلى الاستحقاقات التي ينبغي التعامل معها، خصوصاً في الملف الاقتصادي، وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت الحكومة المقبلة أن تحقق استقراراً ونجاحاً ممكناً، في إدارة ملفات المرحلة المقبلة.

تمكنت الديمقراطية التونسية الناشئة من خوض تجربتها الانتخابية الثانية بنجاح، من أجل إرساء منطق الانتخاب، بدل فكر الانقلاب، والاستحواذ غير الشرعي على السلطة، وهو أمر يمثل درساً مهماً لكل متابعي هذه التجربة، حيث يمكن اعتبارها دليلاً على حيوية المجتمع السياسي، وسرعة تشكله، وسيره بخطوات واضحة نحو الوضع الديمقراطي النهائي، وينبغي أن ندرك أن الديمقراطيات، جميعاً، إنما قامت على نمط من الإكراهات، وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة، لتستقر، في النهاية، على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبتها بعضها بعضاً. بالطبع كل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلاً لحل النزاعات، فديمقراطية ما بعد الثورة في تونس قائمة على تعايش مفروض، وتوازن قوى واضح، سيدفع كل الأطراف، وبغض النظر عن أحجامها الانتخابية، إلى الإقرار بحق الجميع في المساهمة في بناء المشهد السياسي المقبل، ضمن الخيارات الكبرى للمجتمع التي تم التنصيص عليها في الدستور التونسي الجديد.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.