في مسؤوليتنا التاريخيّة عن استعمار العراق
تنتهي سنة 2014، والاستعمار الأميركي-الإيراني يلتهم العراق وسورية. لكن، بينما يحصل السوريون على الكمّ الأكبر من التغطية الإعلامية حول القتل الذي يحصل بحقهم هناك، فإنّ العراقيين لا يتمتّعون بحظّ كهذا: الطائرات الإيرانيّة تقصف العراق إلى جانب طائرات التحالف والطائرات من دون طيار الأميركيّة (موقع "جانس"، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014)، المارينز الأميركيون يقاتلون في الأنبار (موقع "الجزيرة"، 20 ديسمبر/كانون الأول 2014)، "32 ميليشيا شيعية تذبح السنة بحجّة الإرهاب"، كما قال مفتي العراق (الجزيرة، 3 ديسمبر/كانون الأول 2014)، كل هذا جزء يسير من أحداث يومية متسارعة تحصل في العراق، ولا نسمع في إعلامنا العربي في المشرق، ومن مثقفينا الجهابذة، سوى اختزال كلّ ما يحصل في العراق على أنّه تقليبات بلاغيّة فارغة مركّبة من كلمات مثل... "داعش" و"داعشي".
الغريب أنّه في مواجهة الاستعمار الإيراني-الأميركي المباشر للعراق، فإنّ الأكثرية الساحقة من المثقفين والكتّاب السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وخصوصاً ممن أعلنوا، ويعلنون، وقوفهم إلى جانب ثورة السوريين، يتجاهلون معاناة العراقيين الذين يتعرّضون لتغوّل عسكري إيراني-أميركي، لأنّهم أرادوا، في يوم من الأيام، أن يطالبوا بآدميتهم. من هؤلاء المثقفين من يتخصّص في الهجوم اليومي على جرائم النظام السوري من تعذيب وإلقاء البراميل وغاز الكلور على المدنيين في جوبر، وهذا كلّه صحيح وواجب، ولكن، عندما يقترب الأمر من العراق، فإنّ هؤلاء أنفسهم يعيدون تكرير نفايات الكلام الغربي المتواطئ مع إيران عن "أولوية مواجهة داعش". طبعاً، حجّة أولئك صبوة "علمانية" يدّعونها، وحكاك تنويريّ يهرشون فيه بأقلامهم. والنتيجة جثث أطفال الأنبار والرمادي المتفحمة، كما لو أنّ الاحتجاج على اضطهاد تنظيم "داعش" الإيزيديين، مثلاً، يعني، بالضرورة، التحلّي بصمت مرعب حول القتل الجماعي والتهجير والتغييرات الديموغرافية الاستعمارية التي تلحق بالعرب "السنّة" (وليس السنّة وحدهم) في طول العراق وعرضه. وإذا ما افترضنا وجود النية الطيبة لدى هؤلاء الكتبة، وهو أمر ليس بديهياً، فإنّنا يجب أن نفترض، أيضاً، نيّتهم السليمة في نقاش صريح وموضوعي لأسئلة باتت اليوم ملحّة:
ما مدى مسؤوليتنا جميعًا، كبشر أولًا، ومواطنين عرب ثانياً، عن تعفّن الوطن العراقي في فترة الاحتلال الأميركي المباشر للعراق بعد 2003، وتحويله إلى مستعمرة إيرانيّة بعد 2006؟ لماذا صمت من هلّل للغزو الأميركي، بحجّة التخلّص من نظام صدام حسين، وانتشى بديموقراطية أميركية مستوردة على ظهر الدبّابات، أو من كان في المقلب الآخر الجيّد تاريخيًّا ووقف ضد الغزو الأميركي، على حدّ سواء، لماذا صمتوا عما حصل للعراق حتى اليوم: كما لو أن القطّ الاميركي-الإيراني المهجّن يأكل لسانهم فقط عندما يتعلّق الأمر بالتصريح عن التغوّل الإيراني في هذا البلد العربي الشقيق، بلد لا يقلّ شعبه بطولة وانتصاراً لكرامته عن الشعبين السوري أو الفلسطيني.
بينما كانت البروباغندا الإيرانية، الناطقة بالعربية، تمتدح "مقدرات نوري المالكي السحرية على إرضاء إيران والولايات المتحدة الأميركية"، كان الأخير ومجرموه يلقون الناس ويعذبونهم في سجون سرّية ("لوس أنجلس تايمز"، 14 يوليو/ تمّوز 2011 والتقرير الكبير لمنظّمة العفو الدولية "العراق: عقدٌ من التجاوزات"، 11 مارس/آذار 2013). لكن، من منّا، خلال ذلك كله تكلّم عن أوجاع العراقيين وتجريف وطنهم مجتمعيًّا وفكريًّا؟ إنّ عملية الإعدام الحضاري، الأميركية-الإيرانية، للعراق التي دامت 11 عاماً منذ الغزو، ويتكلّم عنها بالتفصيل كتاب ريموند بيكر وشيرين إسماعيل "التطهير الثقافي في العراق"(2010)، تمّ فيها اقتراف أنواع وأعداد مهولة من الجرائم، مثل قتل أساتذة جامعات وأطباء وصحفيين ومفكرين، تحت صمت العالم بأسره. ومن عرفت أسماؤهم يصل عددهم إلى 193، وهو غير نهائي، لأنّ التقديرات تصل إلى أكثر من ألف أكاديميّ (موقع "الجزيرة" بالانكليزية، 30 مارس/آذار 2004). ولمن يريد اختزال العراق بكلمة "داعش"، اليوم، ولمن لا يريد توضيح أنّ القوة الأساسية المتحالفة مع "داعش" التي تقاتل الإيرانيين والأميركيين في العراق، اليوم، هي العشائر العربية، ومعها بعثيون عراقيون سابقون وأفراد من المقاومة العراقية، قاتلت الأميركيين في الفلوجة وغيرها، أليس مسؤولًا هو كذلك بدرجةٍ ما، عما يحصل بتغطيته الصمت الكبير الذي يلف الجرائم التي ترتكب بحقهم، فيسمح لقاتليهم بالإيغال فيها؟ فبينما يدافع أهل العراق عن أنفسهم ضد التلزيم الاستعماري لبلادهم للفرس من الإمبريالية الأميركيّة، هم الذين لم يعد لديهم من خيارٍات كثيرة، سوى التكيّف مع وجود "داعش"، لإنقاذهم من مآل استعماري أسوأ بكثير، لا نكاد نسمع أحداً ممن يحتجّون على القتل بالنابالم الحارق في مخيم اليرموك أو الموت جوعًا في الغوطة يقولون شيئاً عما يحصل للعراق. لماذا؟ هل يعتقدون أنّهم، بتملّقهم الأميركيين، والأوروبيين المتحالفين مع إيران في العراق وسورية، وبالتصفيق لقاتلي العراقيين باسم الحرب على "داعش"، فإنهم سيوقفون بذلك المجازر التي تحصل في سورية؟
إذا أردنا، هنا، تفحص المسؤولية التاريخية للنخب المثقفة العربيّة، نرى أنّ جهلاً يلفّهم بسبب تصديق البروباغندا التي كانت تُنشر كل الوقت عن "العراق الجديد" الذي تبيّن، الآن، للجماهير العربية، بأسرها، كم كان "جديده" زيفًا وبهتاناً وقتلًا ومجازر. لكن، هناك المسؤولية الأعمق، مسؤوليّة من كان يعرف كامل الحقيقة المرعبة، أو الجزء الكافي منها، وكان لا يريد منّا أن نعرف أكثر: ما هي مسؤولية من هلّل للغزو الأميركي للعراق حينها لأنهم "ضد الديكتاتور"، ثم سكتوا عن إلقاء الأميركيين اليورانيوم المنضّب على المقاومة العراقية في مدينة الفلوجة عام 2006 التي ما زال أطفالها يولدون مشوّهين (تقرير "منظّمة الصحة العالميّة"، 11 سبتمبر/أيلول 2013)؟ ما هي مسؤولية من هلّل لقانون "اجتثاث البعث"، حينها، لأنه، مثلًا، كشيوعي (مزيّف) جعله كرهه المزمن للبعثيين العراقيين، بعد غزو العراق، يهلّل للإمبريالية الأميركية والحاكم السامي، بول بريمر، ولاحقًا للاستعمار الإيراني للعراق، تحت ستار "محور الممانعة"؟ أو لأنه، كشبه-ليبرالي، انتشى، حتى الثمالة، بحلّ الجيش العراقي، لأنه "ضد العسكريتاريا"؟ ألا يتحملّ جميع هؤلاء مسؤولية لجوء العراقيين الذين حوصروا، ولم يعد لديهم أيّ سبيل آخر للدفاع عن أنفسهم، بعد أن تركتهم الدول العربية وأحزاب العرب ومفكروها وحدهم، فدفعت هؤلاء إلى العودة إلى قوّة بدائية جدًا ومرعبة، قوة الدين العاريّة التي تحوّل الغضب المتأتي من ظلم الثيوقراطية الشيعيّة "لحزب الدعوة" الحاكم إلى قوّة هائلة، قوامها تنظيم "الدولة الإسلامية" المتحالف مع العشائر في الأنبار والرمادي وغيرها من المناطق العراقية المختلفة؟
لا أحد من العراقيين، قبل باقي العرب، يستطيع قبول "الدولة الإسلامية" قوة بناء مستقبلية، لأبناء العراق وسورية. كثير من أبناء العشائر العراقيّة الذين يقاتلون الإيرانيين وميليشياتهم يعلمون أنّ "الدولة الإسلامية" ليست بصدد بناء مشروعٍ وطني عراقي، أو سوري، جامعٍ. فأبناء قبيلة شمّر، مثلاً، هم ممن قاتل سلف "الدولة الإسلامية"، أي "الدولة الإسلامية في العراق"، عندما كانوا جزءاً من "الصحوات" حينها، وبلغ تعداد عشائر "الصحوات" حوالي مائة ألف من ضمن الخطة التي أشرف عليها جيش الاحتلال الأميركي عام 2008، بقيادة الجنرال ديفيد بترايوس لقيادة تنظيم "القاعدة" في العراق، ثمّ سلم تنفيذها للحكومة العراقية في مقابل منح 20% منهم وظائف في الجيش والشرطة، لكنّ حكومة المالكي رفضت تطبيق ذلك، بسبب الفساد الزائد عن الحدّ، والخوف من انحسار السلطة "الشيعية" في ظلّ وجود عربٍ سنّة في الجيش ("نيويورك تايمز"، 17 أكتوبر/تشرين الأول 2010)، ما جعلهم يتحالفون مع أفراد التنظيم الذي قاتلوه ضدّ حكومة المالكي التي قصفت المحتجين السلميين بالبراميل المتفجّرة!
أضعف حجة تقال ضد ما يقوم به تنظيم "الدولة الإسلامية"، اليوم، هي الكلام عن وحشيته، في حين لا يقال حرف واحد عن وحوش أخرى أكبر وأكثر هولًا، مثل إيران التي تتولى إدارة وتنفيذ عمليات الذبح المباشرة للعراقيين: فما الحلول الموجودة أمامك، إن كنت ستقتل في العراق، لأنّ اسمك عمر، أو أنّ ابنتك ستغتصبها ميليشيات تحبّذ قطع الرؤوس مثل "داعش" وأكثر، لأن اسمها عائشة؟ هل تقنية قاطعي الرؤوس أحباب أوباما، المعنونين "الحشد الشعبي"، ويا لهذا الحشد كم هو "شعبي" فعلاً- في حزّ الرقاب هي حضاريّة إلى درجة عدم تجرؤ الأكثرية الساحقة من مثقفينا السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والمصريين وغيرهم على ذكرها حتى؟ وعندما نعرف أنّ هذه الميليشيات قتلت، قبل أيام، الصحافي العراقي "الشيعي"، كاظم الركابي، لأنه كان يقوم بتغطية المواجهات الدائرة بين أنصار المرجع الصرخي المناوئ لإيران والميليشيات التابعة لإيران، فربطته وسحلته في الشارع، ثم سكبت حامض الكبريت في فمه. هل سيفكر المواطن العراقي، حينها، ما إذا كان من يوفر له سلاحًا للدفاع عنه علمانيّاً أم لا؟ هل يفترض بالعراقي أن يموت حرقاً، أو صلباً، على ما درجت احتفالات الميليشيات الموالية لإيران ليرضى عنه بعض متنورينا؟ وماذا تنصحونه أن يفعل حينها؟ هل سنستورد له كتائب ثورية حمراء من مستودعاتكم، أم ترشّون عليه من علٍ تنظيمات علمانية، تحمل كتبكم حول "نقد الدين"، أسلحةً ليواجه بها الاستعمار المغولي بطبعته الفارسية-الأميركية؟ هل على العرب الذين يذبحون في العراق وسورية الموافقة مع ستيفان دي ميستورا الذي، بحسبه، "الميليشيات الشيعيّة التي تقاتل مع الأسد شرعيّة"، أو أن يفرحوا بوزير الخارجية الأميركية، جون كيري، الذي قال أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، عندما سئل عن الميليشيا التابعة لإيران: "80% من العراق هم شيعة. هناك مصالح". (مجلّة "كومنتري"، 10 ديسمبر 2014). (عجباً! لماذا استحى الرجل ولم يقل 100%؟) أو الصحافي الأميركي الداعم لإيران، أريس روسّينوس، الذي قال إنّ "من العدل أن نقول، من دون أن نحكم في ذلك، إنّه سيكون هناك القليل جدّاً من العرب السنّة في نينوى عام 2015"، أو ما قاله، أخيراً، علي شمخاني، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لصحيفة فاينانشيال تايمز، عن "تحرير" مدينة الموصل العراقية، وما إذا كان ذلك "سيأخذ سنوات من الوقت بسبب عزيمة السنة"، قائلاً: "أعتقد أنّه على السنّة أن يقلقوا" (22 ديسمبر 2014)؟
الآن، في وداع سنة 2014 الرهيبة، يجب التذكير بأنّ الأكثرية الساحقة من العرب، من المحيط إلى الخليج، بمثقفيهم وأحزابهم وعلمانييهم ومتديّنيهم، مسلمين سنّة وشيعة، كما المسيحيين وباقي الطوائف والمذاهب، صمتت، عن قصد أو عن غير قصد، أزيد من 11 عامًا على إعدام حضاري، تطوّر بسرعة رهيبة منذ 2003 في العراق. وما يحدث، الآن، من تغوّل استعماري إيراني في لبنان وسورية واليمن، وفي الشرق العربي كلّه، ليس إلا المآل الطبيعي لذلك كله، وإنّ استمرار هذا الصمت والرهان، الخاسر سلفاً، لجزء من النخب العربية عليه (المعارضون السوريون خصوصًا) بأمل إيقاف الكارثة التي تحلّ بشعبهم، ما هو إلا وهْم قاتل لمن يقود نفسه بنفسه إلى الهلاك المحقق.