في محال بيع السجائر

13 اغسطس 2020
+ الخط -

في يوم قائظ من أيام الصيف ذهبت إلى إحدى المحال الصغيرة في العاصمة النمساوية فيينا المتخصصة في بيع السجائر، وطلبت من البائع الذي كان يقف خلف الساتر الزجاجي الذي يفصل بيني وبينه تجنباً في الوقوع في المحظور، وهذا ما فرضته السلطات الحكومية، في تعليماتها، كما حال غيرها من الدول، الالتزام في ارتداء الكمّامة تجنباً للإصابة بفيروس كورونا ـ كوفيد 19، في المحال العامّة، وحتى الصغيرة، وفي مركبات النقل العام، وفي المستشفيات، والصيدليات، والمراكز الصحية.

وكنت طلبت، من البائع، علبة من السجائر لحاجة صديق ضيف جاءني زائراً بعد غياب، وذكرت للبائع عن ماهية العلبة التي أرغب بشرائها، نوع (سِليم) من دخان (البولمول)، ومن صنف (ليلّا)، فبادرني الشاب البائع إلى إعطائي (علبة الدخان)، وعند قراءتي ما كتب عليها، أكدت له أنَّ هذا النوع ليس ما قصدت، وهناك نوع آخر يختلف كلياً عنه!.

وقف الشاب، الضيف، البائع مندهشاً، وأكد لي، بلغته الألمانية، أنَّ هذه العُلبة من السجائر التي طلبت. اقرأ ما هو مكتوب عليها. وأشار بإصبعه إلى حيث الكتابة المرسومة على غلافها. قرأت وضحكنا سوياً، وبإيماءة منه أدركت أنَّ هذا النوع هو ما قصده صديقي الضيف. عُدت إلى البيت، بعد أن دفعت ثمنها بكل لطف إلى البائع، إلّا أنني لم أكن مقتنعاً على أن هذه (الباكيّة) هي المطلوبة!

وصلت البيت، بعد أن احتميت بظل المنازل المتراصّة إلى جانب بعضها البعض من أشعة الشمس المحرقة، ولمجرد أن رأى صديقي الذي كان ينتظرني غلاف العُلبة من الخارج، وقال هذه ليست من النوع الذي طلبت. تمعنت في حديث صديقي، وقلت له سأذهب وأعيدها بأخرى غيرها، رفض ذلك وتقبّلها على مضض.. إلّا أنّني رفضت ذلك وأصرّيت في الذهاب إلى المحل لاستبدالها، وإذا بالشاب الضيف ما زال (متبسمراً) في مكانه، واقفاً في المحل. فطلبت منه، بلغتي البسيطة التي أتقنها، أن يعيد لي علبة السجائر، واستبدالها بأخرى بولمول، نوع (سليم)، صنف ليلّا، ذات اللون البنفسجي، الليلكي. لم يفهم البائع الضيف الذي جاء ليساعد والده الطاعن في السن، مقصدي.

عدت إلى البيت ضاحكاً، وقلت في سريرتي ألهذه الدرجة هم دقيقون في عملهم الذي يقومون به، ويعشقونه، وإن كانت المشكلة بسيطة وتكاد لا تذكر.. ولا تتطلب أي انتظار

تركته جانباً، ووقفت أمام علب السجائر المرصوفة ضمن إطار خشبي جميل على جدار المحل. فأشرت بإصبعي إلى النوع الذي أقصده. ضحك، وناولني إياه. وقال: حسب ما فهمت منه. هذا ما تقصده. تفضل. أنا لا أعرف في أنواع علب السجائر. كما ترى، فأنا ضيف جئت لمساعدة والدي الكبير في السن. أحاول أن أخفّف عنه بعض الأرق بتلبية طلبات الزبائن، وأساعده قدر الإمكان.. ولكن تظل معرفتي بهذه الأصناف من السجائر وأنواعها بسيطة جداً.

وضع عُلبتي السجائر إلى جانب بعضهما البعض، على الطاولة التي أمامه، التي تزيّن المحل من الداخل برسوماتها المنقوشة المتفرّدة، ينتظر الفصل فيها من قبل والده المسؤول عن المحل الذي يقبع في الداخل الذي أخذ يتحدث مع أحد الزبائن الذي جاء يشتري بعض الأصناف من السجائر الفاخرة.

قال لي أرجوك أن تنتظر قليلاً. كما ترى، والدي مشغول مع الزبون، ولا داعي للقلق. انتظرت بعض الوقت، وبعد أن أنهى صاحب المحل حديثه مع أحد زبائن المحل، التفت إليّ وقال لي، وبكل لطف، بعد أن اعتذر عن التأخير، عن فحوى مشكلتي. فذكر له الشاب الوسيم وجه الخلاف في ما بيننا، وعلى الفور بادر والده بإعطائي علبة السجائر، محل الخلاف، وبعد التأكد من إخراج القديمة من الحاسب الآلي، والتأكد من إدخال العلبة الثانية أصولاً، وبحسب الإجراءات المعمول بها في حال البيع، أو في إعادة استبدال واحدة بأخرى. بادرني بالشكر، والاعتذار مرة أخرى عن الفترة التي قضيتها!.

وعدت إلى البيت ضاحكاً، وقلت في سريرتي ألهذه الدرجة هم دقيقون في عملهم الذي يقومون به، ويعشقونه، وإن كانت المشكلة بسيطة وتكاد لا تذكر.. ولا تتطلب أي انتظار، وإنما كان من المفروض التنفيذ المباشر إرضاء للزبون. هذه طباعهم التي جُبلوا عليها، وهذه طباعنا التي ما زلنا متشبّثين فيها، وإن كانت بدون قصد منا. ما رأيكم؟

...

*بعد جهد جهيد، تمكّن صديقي المحترم أبو أحمد، طيّب الله ثراه، من اللّحاق بركب المسافرين المتوجهين إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن فاز بتأشيرة زيارتها، وكان من الناس الطيبين إلى حدٍ بعيد.

كريم في تعامله، ومتفهماً قضايا الناس ونواياهم إلى أبعد الحدود. ودود في طباعه وفي خصاله الحميدة،  ويُحسن، رحمه الله، أن (يأخذ الفرد منّا، نحن محبيه، إلى نهر الفرات ويرجعنا عطشانين!). 

صفاته فيها الكثير من دماثة الخلق، والبساطة على الرغم من الفقر المدقع الذي كان يعيشه!. وفي شتاء عام 2003، كنت وإياه نحضّر لافتتاح مطعم عربي في ولاية كولورادو الأميركية الذي نعمل فيه لدى أخ حميد الخصال، وهو الآخر كان كريماً في طبعه وفي تعامله، وهو من حملة الجنسية الأميركية، ومن سكان مدينة دمشق، ومن الملاّكين المقتدرين، من أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال في ولاية كولورادو، ويدعى محمود القيصر، وسبق أن استأجر محلاً لتحويله إلى مطعم عربي، وكنا نجهد ليل  نهار للانتهاء منه والإسراع في افتتاحه، وأطلق عليه اسم (مطعم دمشق) في إحدى المدن في الولاية الجبلية، وفي فترة الاستراحة القصيرة التي تُعطى لنا عادة، كنا نذهب إلى خارج المطعم لقضائها في ساحته الواسعة، والعودة مرةً أخرى لمتابعة عملنا.

وإلى جانب المحل من جهته الثانية، يوجد مكان مُعشب كان يتردد عليه عدد من طلاب وطالبات المدرسة الثانوية القريبة من الساحة، وكان البعض منهم يمارس هواية غبّ الدخان وبكثافة، ومن بينهم بعض الصبايا الشقراوات الجميلات، من صغار السن، فأخرج أبو أحمد من جيبه علبة السجائر (المارلبور)، وقام بضيافة الشابات الصغيرات، من باب الكرم الذي يتحلّى به المواطن العربي، ولم يكن يدرك أبو أحمد أنَّ هذا التصرف الطيّب، سيكون له أثره السلبي عليه في حال علمت به الشرطة المحلية، فسيكون مصيره السجن!.

وفي اليوم التالي، ذهب أبو أحمد إلى محل بيع السجائر، كعادته، لشراء علبة دخان، وكان يقف إلى جانبه طالبتان اثنتان صغيرتان في السن، وبعد أن اشترى أبو أحمد علبة السجائر طلبتا منه سيجارتين، فبادر كما هي عادته بتلبية رغبتيهما، كما طلبتا منه شراء علبة سجائر لهما، ولم يتردد بذلك، فما كان منهما إلّا أن بادرتا بدفع أكثر من ثمن علبة الدخان لأبو أحمد، وهذا ما أفرحه وهو العامل البسيط الذي كان يتقاضى أجراً لا يتجاوز الثلاثين دولاراً، بعد فترة عمل تتجاوز الثلاث عشرة ساعة عمل في اليوم، فما كان من صاحب محل السجائر إلّا أن  التفت إليه وأنّبه على فعلته التي يجهلها، وفيها مخالفة كبيرة للقانون الأميركي، وهو جرم شائن كاد يعرّضه للمساءلة القانونية والحبس والإبعاد من الولايات المتحدة، في حال علمت الشرطة بذلك، لا سيما أن الصبايا أعمارهن لم تتجاوز بعد الثامنة عشرة عاماً.

هذا ما ذكره لي صديق المرحوم أبو أحمد الذي كاد أن يدفعه كرمه، وعاطفته النبيلة، وأخلاقه الطيبة، وطيبة قلبه، وحبّه للناس، في تكريمه للطالبتين اللتين حاولتا أن تقتنصا جهله لقانون البلد، والحظر الذي يمنع فيه على الفئات العمرية التي تقل عمرها عن السنّ القانونية بتعاطي التدخين مهما كانت المبرّرات، من إيداعه السجن!.

هذا ما تعلمه أبو أحمد من هذا الموقف الذي كاد أن يرمي به في غياهب السجن، وإبعاده عن الولايات المتحدة بعد رحلة طويلة من الجهد والتعب، والإجراءات المقرفة، حتى تمكن من الوصول إليها وبشق الأنفس، ودفع الغالي والرخيص لتحقيق حلم وردي طالما راوده، ومنذ شبابه اليافع، إلّا أن القدر أنقذه، وعلّمه درساً لم ينسه في كيفية التعامل مع أمثال هذه الفئة من الصبية التي حاولت الإيقاع به بسبب جهله للقانون الأميركي الذي لا يرحم أحداً.

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.