في قوة العوالم الافتراضية
يجري، في الأشهر الأخيرة، تعميم ﭭﻴﺩيو في الوسائط الاجتماعية، عن ميلاد عالم جديد تعود فيه المجتمعات البشرية إلى مجتمع القبيلة والطائفة، عالم يتم الاحتفاء فيه بالمذاهب والعشائر وأشجار النَّسَب. لا يتعلق الأمر بالصورة الافتراضية التي ركَّب اﻟﭭﻴﺩيو بواسطتها الملامح العامة لهذا المجتمع، بل ينطلق محتواه من سعيه إلى تشخيص المظاهر المذكورة، في علاقتها بجوانب من صور الصراع والحرب القائمة اليوم في المشرق العربي وفي أفريقيا، والتي يفترض أنها ستعمَّم استقبالاً لتشمل مناطق أخرى عديدة في باقي أنحاء العالم.
نتصور أن الرسالة الأولى التي يتركها اﻟﭭﻴﺩيو في ذهن متلقِّيه، تروم التأكيد على وجود علاقة تفاعلية بين ما يتم تداوُله في العالم الافتراضي وما يحصل في الواقع، فالعالمان يلتقيان ويختلطان، ويجد الواحد منهما عناصر من ملامحه في الآخر، وذلك من دون تفكير في السببية، أو تساؤل عمَّن يُمثِّل الصورة، ومَن يُمثِّل الأصل؟ إنهما يتبادلان الحضور أمامنا في الصور، سواء في الوسائل والوسائط السمعية البصرية أو داخل المجتمع. وتحصل لدينا في الآن نفسه، وبشكل مستمر، عملياتُ تَمَثُّلٍ لما يتم تصويره ونقل معطياته من الواقع، أو من الصور نفسها، كما ترد على شاشات التلفزة، أو كما يحتضنها الدماغ بتوسُّطٍ مركَّبٍ، تحضر فيه العين، ثم الحواسيب والهواتف الذكية.
ومن الأمور الغرائبية المفزعة في هذا السياق، كفاءة الوسائط الاجتماعية في تعميم معطيات مُركَّبة ومتناقضة، وسعيها المتواصل، في الوقت نفسه، إلى إقناعنا بها، حيث تعرض أمامنا ليل نهار جملة من الأحداث والرموز، بالصورة التي تجعلها تملك القدرة على أن تعود بنا قروناً إلى الوراء، سواء في مظهرنا العام أو في طرق فهمنا وتفاعلنا مع معها. بل سيذهب الأمر أبعد من ذلك، ليصبح عالم القبيلة والطائفة والمذهب هو الواقع الفعلي، حيث تنشأ، في كل يوم، عشائر وطوائف جديدة، وتنشأ بمحاذاتها أسواق جديدة لترويج عبادات ومواقف وطقوس، لا علاقة لها بالدين.
نشير، هنا، إلى عالم تَمَّ تَمَثُّله في البداية، باعتباره فضاءً للافتراضي، فضاءً لعالم سطَّرته مواقفُ قوةٍ وغطرسةٍ، ووجد في الطَّفْرة التقنية وآلياتها الدقيقة الوسائل القادرة على نقل الموقف إلى صورة صانعة لملامح العالم المرغوب في تحققه. الأمر الذي مكَّن الصورة من التحول إلى فضاءٍ، يملأ مساحةً ماديةً في الواقع، وداخل المجتمع. وفي مقابل هذا الاختلاط الحاصل اليوم، غاب الحديث عن المجتمع والوطن والأمة والمستقبل.
وإذا ما سلَّمنا، في ضوء ما سبق، بأن مجتمع القبيلة يملأ، اليوم، فضاءات عديدة في مجتمعنا، ويبرز بصورة مكثَّفة في بؤر معينة، فإن ما يمنحه شرعيته المطلوبة في نظر من دبَّروه، ورسموا ملامح خطوطه العريضة، يتمثَّل في إعلانهم عودة دولة الخلافة، بقيادة الخليفة الذي يبايعه الجميع، ويقود جحافل القبائل لنشر راية الإسلام، وتحقيق العدل في الأرض.
تنتشر في المجتمع الجديد، بفعل أدوات التواصل القديمة والجديدة، خطابات لا تشك، لحظة، في حصول عودة مؤكدة إلى مجتمع الطوائف والقبائل والمذاهب، تسود فيه أخلاق الثأر والانتقام. وها نحن نشاهد اختفاء المجتمعات العربية، كما نعاين بالملموس انمحاء مظاهر وأدوار الدولة الوطنية وشعاراتها وراياتها وأناشيدها. كما نقف على خفوت صوت مؤسسات المجتمع المدني والمجتمع السياسي وباقي المؤسسات العصرية. اختفت الأحزاب بأصواتها المدنية، لتحتل مكانها فِرَقٌ ومذاهب قادمة بأسمائها القديمة وأساليبها العتيقة، مالئة فضاءات الأرض والافتراضي في جغرافيتنا.
وقفت الطوائف والفرق والأخويات، واصطف الجميع في قلب مجتمع المِلَل والنِّحَل الجديد القديم، فلم نعد نتبيّن ملامح تنظيمات المجتمع المدني، الحقوقية والاجتماعية والثقافية. اختفى الجميع، وانخرطت الطوائف والمذاهب القادمة من كل حَدَب وصَوْب في عمليات التهيئة للهبّة الكبرى، منازلة العصر المرتقبة التي سترفع الإسلام والمسلمين درجات عليا في سلم المجد والترقِّي.
يبدأ الإعداد للنصر القادم بتطبيق الحدود، تخريب المدن والآثار والمتاحف ومختلف مظاهر الإبداع والجمال، واستبدال ذلك كله بالخيام وأجواء الهلع، حتى يكتمل إطار الصورة داخل المجتمع. ويتم تأطير كل ما سبق باستحضار مكثَّف، لطقوس الذكر وتراتيل الأدعية المصاحبة لها، ومن دون إغفال الإشارة إلى قنوات التطبيب التي تمارس العلاج بقراءة التعاويذ وتمارس الكي والبخ والطِّلِسْمات، كما تقدم الأدوات المكافئة لمختلف العِلَل في مجتمع القبيلة العائد والمعمّم بواسطة أرقى تقنيات التواصل.
يترتَّب عن ذلك، أن أغلب الخطابات المتداولة، اليوم، في مشهدنا السياسي، تتغذَّى بمنطق الطائفة والقبلية والنصر المُبِين. لم يعد الإعلام المتداول يحجب ما يجري في الواقع، قدر ما أصبح يُتَمِّمُه، ولم يعد بإمكاننا أن نعرف من منهما الأصل، مجتمع القبيلة أم صورة المجتمع المعمّمة في الواقع الافتراضي؟ المؤكد، هنا، أن الوقت أصبح مناسباً لنشر الخوف والكراهية وتعميمهما.
يصنع موضوع الصراع في مجتمعات الطوائف والأعراق الجديدة غرائب وعجائب قادمة من أزمنة موغلة في القدم، ويستخدم وسائل عصرية جداً في نقلها وصناعة مستلزماتها.
وتتم إدارة برامج الحرب في الواقع الجديد في مظهريه، الافتراضي والفعلي، بأعصاب من فولاذ. وغالباً ما يتم في هذه العملية، استحضار منطق اللَّعَب بالأدوات الإلكترونية. كما يتم استحضار أشكال من التأطير السينمائية في المظهر والملبس، في أثناء التصوير وفي لحظات تنفيذ الأحكام الهمجية، لنظل مشدودين أمام ما يجري أمامنا من وقائع وصور، من دون أن نفهم أي شيء.