في قراءة غونتر غراس: أطفال منتصف "الطبل"

14 ابريل 2015
في عيد ميلاد غراس السبعين (تصوير: كريستوف ستاك)
+ الخط -

كتب سلمان رشدي هذه التغريدة، فور علمه بوفاة غونتر غراس: "هذا يوم تعيس للغاية. قامة هائلة بحق، ومصدر إلهام، وصديق. أيها الصغير أوسكار، فلتقرع طبلك من أجله".

بدايتي مع غراس كانت عادية تماماً مثل كثيرين. حالما أُعلن فوزه بجائزة نوبل، بدأتُ البحث عن رواياته، وكانت أول رواية "قط وفأر في قطار" التي لا أذكر منها حرفاً واحداً. وأظن أن هذا يرجع إلى الناشر الحكومي المشهور بإهماله. فقد اعتدنا على قراءة ترجمات سيئة لروايات عالمية على يده.

لكن علاقتي بغراس تحسَّنت كثيراً بعد قراءة "الطبل الصفيح"، التي نبَّهتني - حينها - إلى ما يمكن أن يُسمَّى رواية الأسرة. الأحداث كلها تجري داخل أسرة واحدة، لكن جزءاً من تاريخ ألمانيا الحديث مكتوب هناك، يظهر في تصرفات وأفعال وكلام الأسرة كلها. حتى أوسكار الصغير، الذي دعاه رشدي لقرع طبله، كان مجازاً - بشكل أو بآخر - لألمانيا الوليدة بعد الحرب العالمية الثانية.

أوسكار طفلٌ يظن أن لديه قوى خارقة، يعيش في عالم يشبه عوالم ماركيز. هذه هي واقعية أوروبا السحرية إذاً. ثمَّة مشاهد وتفاصيل أروع من أن تُنسى؛ رأس الحصان يُستخدم لصيد سمك الأنقليس، والأب يختنق بالصليب المعقوف، والجد يختبئ في تنورة الجدة. هل خانتني الذاكرة؟

مرَّت سنوات كثيرة، قرأت "سنوات الكلاب" خلالها ونسيتها، ثم قرأت ترجمة أخرى لـ "قط وفأر" ونسيتها، ولم أفهم أبداً لم بقيت "الطبل الصفيح" عالقة في ذهني وحدها.

ظهر تفسير لذلك مع انتهائي من قراءة عمل سلمان رشدي الأشهر "أطفال منتصف الليل" الذي رأيته إعادة كتابة لرواية "الطبل الصفيح". ببساطة، لو كتب أحدهم فقرتين من خمسة سطور، لتلخيص كل من الروايتين، لتطابقت الفقرتان.

أخذ رشدي الحكاية الأصلية، تلك التي ربما أخذها غراس من حكاية شعبية، أو من مزحة سمعها في المدرسة، أو من حادثة قصَّها عليه أحد الكبار وهو طفل. أخذ رشدي الحكاية الخام، ونقلها مجرَّدة من كل التفاصيل، نقلها من قلب أوروبا إلى جنوب آسيا. ليحكي حكاية الهند كما حكى غراس حكاية ألمانيا.

صحيح أن رشدي أخذ أكثر من ذلك، فحيوات الشخصيات تتشابه في مواضع عديدة، بل إن عالم الواقعية السحرية نفسه يسيطر على الروايتين. لكن كل هذا قد يتكرَّر في روايات أخرى لكتّاب آخرين. وتبقى الحكاية الخام واحدة في الروايتين، من دون أدنى اختلاف. ربما كانت هذه البذرة سر رواية "الطبل الصفيح"، أو سر استمرارها عالقة في ذاكرتي.

بدت تغريدة سلمان رشدي عن غراس حميمية جداً، وحزينة بحق. تلك رسالة من رجل اقترب كثيراً من غراس، قرأه وفهمه جيداً- على ما بينهما من تباين سياسي شاسع لصالح غراس بالطبع. بدت أيضاً وكأنها اعتراف بالجميل الذي أسداه غراس لرشدي حينما كتب "الطبل الصفيح"، أو ربما اعتراف بالدين الذي يحمله رشدي لغراس بعد أن أعاد كتابة "الطبل الصفيح".

* روائي من مصر

المساهمون