في عيادة الطبيب

06 يناير 2019
+ الخط -
تكاد تكون المسافة غير بعيدة بين طبيب العيون، والمكان الذي أُقيم فيه هنا في فيينا، فهي في أبعد صورها لا تتجاوز مدتها العشرين دقيقة، ما يضطرني إلى قطع أربع محطات في القطار العادي البطيء السرعة، وهو ما يعرف بالشتراسنبان في أوروبا، فضلاً عن ركوب قطار المترو السريع، وقطع ما ينوف عن المحطات الثماني، وهذه الفترة، وكما قلت، لا تبعد على أبعد تقدير، العشرين دقيقة بما فيها فترة الانتظار والانتقال من محطة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر.

وفي طريقي إلى طبيب العيون، بعدما نزلت من المحطة الأخيرة للمترو، استوقفني عجوز عربي هزيل القامة، ملفت للمارّة، سارع إلى سؤالي عن طبيعة المعيشة التي تقضونها هنا في النمسا، وكيف لكم أن تكونوا كعرب مهمّشين، لا صوت لكم ولا عمل، ولا حراك نهائياً على الرغم من الدعم المادّي غير العادي الذي تبادر الحكومة، مشكورة، في دفعه للإخوة اللاجئين، عرباً وغيرهم، ممن حطّت بهم رحالهم في أرض هذه البلاد، والقارّة العجوز بصورةٍ عامة؟

أجبته بكل تهذيب عن فحوى أسئلته المباشرة التي فيها من الاستفزازية وشحذ الهمم ما يكفي، وطلبت منه أن يعفيني من الإجابة عن بعض تساؤلاته لأنها تحتاج إلى ذوي خبرة، ووقت طويل ما دعاني إلى اختصار ما يمكن الإجابة عنه، وقلت له: نحن كعرب، طبيعي، كلاجئين أُصبنا في إحباط وكسل وخمول غريب في هذه البلاد، وهم أسبابه، لأن الحكومات وبدفعها المساعدات لجميع اللاجئين، وإن كانت بالكاد تكفي تغطية حاجاتهم، وتأمين لوازمهم الضرورية ومعيشتهم، بما فيها دفع إيجار السكن والملبس، وكل ما يمكن أن يخطر على بال، فإنه تمنينا على هذه الحكومة فسح المجال أمام اللاجئين بتأمين العمل، وتشغيلهم في أماكن كثيرة، وهذا أفضل حل ويمكن أن يساعدهم في دمجهم في المجتمع بصورة مباشرة، ناهيك عن الاعتماد على أنفسهم بدلاً من المساعدات التي تقدمها لهم مع أول كل شهر، ما انعكس ذلك بصورة سلبية على معيشتهم، وإبعادهم عن الانخراط في الأعمال التي يمكنهم الدخول إليها، والتخفيف من الضغط عليهم ومن صورة الحال التي هم عليها اليوم!

فوجئ العجوز العربي وهو يصغي إلى إجاباتي، عمّا تقدمه دول أوروبا للاجئ والمهاجر إليها، وفي هذه الحالة تفضّله على بني جلدتها، باحتضانه والاهتمام به أيما اهتمام.


إنَّ العطاء والدعم المجزي الذي يُمنح للأسر اللاجئة المقيمة، ومثلها للأفراد، يكفي حاجاتهم، وما يفيض يدفعون به إلى أهليهم وذويهم، ومساعدتهم على سد منافذ الجوع والحاجة التي يعانونها في أماكن إقاماتهم، في سوريا وفي غيرها، ممن اضطرتهم ظروفهم الحياتية المؤسية إلى البقاء فيها على الرغم من الخراب والدمار والعيش الذليل، ومتاهات الحياة الكئيبة التي يعيشون!

وبعدما أنهيت حديثي المقتضب، والإجابة عن بقية تساؤلات صديقنا العربي العجوز، وعدته بلقاءٍ آخرَ يُرضي رغبته بطرح ما في مخزونه من أسئلة مباشرة، وافق مضطراً بسبب انشغالي، فأسرعت حاثاً الخطى إلى حيث عيادة الطبيب قبل أن يفوتني الدور الذي سبق أن حجزته قبل أسبوعين بسبب الازدحام الشديد!

في بهو العيادة النظيف والواسع، قابلتني إحدى الممرضات وطلبت مني إبراز بطاقة التأمين الصحية، وحجزت لي دوراً لمقابلة الطبيب المختص للكشف عن وجعي، فأشرت بإصبعي إلى عيني اليسرى التي تؤلمني، ومنذ يومين اثنين، وبعد التحقق من حديثي أرسلني إلى ممرضة أخرى لإجراء الكشف الطبي عليها، وبدورها حوّلتني إلى ممرضة ثانية، وأخرى ثالثة للتأكد من أسباب الألم الذي جئت أشكو منه.

وبمساعدة إحدى الممرضات التي تتحدث العربية بطلاقة، وبعد السؤال والتعريف عن نفسها أكدت أنها من أب سوري الأصل وأم صربية، وتعيش في فيينا مع والدتها وأختها التي تكبرها سنّاً، علمت منها سبب وجودها هنا، فقالت لي: إنني أعمل في المركز الطبي للعيون، وكما ترى، منذ نحو عامين، وأقوم بمساعدة الكثير من اللاجئين العرب، من خلال مراجعتهم المركز العيني بترجمة ما يمكن أن يفيدهم من توجيهات الطبيب المشرف على عمل المركز، إضافة إلى الطبيبات والممرضات العاملات فيه، وكما ترى فإنه مركز واسع وكبير، ويؤمّه يومياً عدد لا بأس من المرضى.

شكرتها على ما قدمته لي من مساعدة بتوصيفها الدواء الذي دوّنه الطبيب على الوصفة الطبيّة، وأكدت لي تناوله بانتظام، وعدم العبث به، أو تركه بين يدي الأطفال... فهو داء فعّال ويمكن أن يؤذي العين في حال أخذه بدون معرفة مسبقة بنتائجه العكسية. شكرتها مرةً ثانية على مساعدتها لي، وتمنيت لها الراحة والسعادة في مكان إقامتها.

وقبل مغادرتي مركز العيون الطبي، وفي المحطة الثالثة للفحص الطبي الذي يقف عنده المريض، التقيت بالطبيبة من أصول إيرانية، وهي تعمل في المركز عينه منذ زمن بعيد، ومن الوهلة الأولى تشعر بأنّها عربية الدم واللسان، وتحاول قدر الإمكان أن تقدم لك المساعدة، أي مساعدة كانت، تزيل عنك بعض الألم، أو قد يضطرّك الحال إلى شكرها على لطف تعاملها وحسن تصرفها، ومدى تقبلها الطرف الآخر مهما كانت نظرته إلى الأشياء، وإحساسها المرهف تجاهه، وحاولت التخفيف من الألم الذي ألمَّ بي.

وأثناء فتحها الملف الإلكتروني المخزّن في جهاز الكومبيوتر، بعدما عادت بإجراء الفحص الطبي لعيني من جديد، حاولت أن تُفهمني أن ما سبق أن أُعطي لي من أدوية، مكتوب في ملفي الشخصي، وفي هذه المرة ستكتب لي دواءً آخر جديداً بديلاً عن الدواء السابق، فأرسلت في طلب الممرضة التي تتحدث لغتي العربية، وقالت بحضورها: سأكتب لكَ نوعين من الأدوية عليك أن تلتزم بهما، أحدهما يمكنك المواظبة عليه وبصورة مستمرة في حال استمر الألم، أما النوع الثاني من الدواء، فيكفي استعماله لمدة أسبوعين، وإن ظل الألم يمكنك مراجعة المركز وإجراء الكشف الطبي مرةً ثانية تحسباً لمضاعفات علاجية..

ودّعت الممرضة من أصول عربية مركز العيون الطبي، وشكرتها وزميلتها على حسن تعاملهما معي، وتمنيت أن تكون أمثال هذه الخدمة المتفرّدة متوافرة على أصولها في بلادنا العربية التي، وللأسف، تفتقد لمثل هذه الخدمات الطبية، وهاته الموظفات العاملات اللاتي يعملن بضمير حي، فضلاً عن الاحترام الذي يبدينه للمرضى، أياً كانت جنسيتهم، ناهيك بتوافر الأجهزة الطبية الحديثة، وسرعة إنجاز ما يطلب منهن، وبدقة متناهية، وفوق هذا وذاك، نظافة المكان وترتيبه وكيفية انتظام المرضى بأخذ أدوارهم، بهدوء وبصمت مطبق، ما يضفي على المكان الراحة والإمتاع، وعندها يمكن أن نقول لماذا لا نقوم، نحن كعرب، على تجسيد هذا الدور والعمل، وبكل جدية، للوصول إلى ما وصل إليه الغرب، ولا سيما أن لدينا الإمكانية والمال الكافي، ولكن هل يمكن أن نتعلم الاحترام ونقف بالدور ملتزمين؟ إنهم يظلون أكثر منا انضباطاً واحتراماً للنظام العام ولأنفسهم، وللمكان الذي يقومون على خدمته..

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.