في عصر الديكتاتوريات..
بين الديكتاتوريات العربية والوطن حكاياتٌ لا تنتهي، كما أن بينها وبين المواطن ساحة معركة. العودة إلى الماضي لفهم الحالة وتشخيصها، ومن ثم الوقوف على طرقٍ لعلاجها، باتت ضرورة في زمن الثورات، هذه الثورات التي أتت لتغيّر الأنظمة، لا بد أن تغيّر مفاهيم الإنسان، وما علق في ذهنه من مغالطات. الوطن مفهوم يحتاج إلى تحليلٍ وتأمل، أذكر أننا لم نفصل في مقاعد الدراسة بينه وبين "القائد"، بل يكادان يتماهيان حتى يصبحان كُلاً واحداً، والنتيجة بلا شك ما رأيناه في سورية.
ما هو الوطن؟ سؤالٌ قد يكون ساذجاً، لكن مدلولاته البعيدة ارتبطت برفض التغيير، أو قبوله، إذا علمنا أنه يُقصد من تغيير "نظام مستبد" مؤامرة على الوطن، ونيل من عزته وكرامته. إنها جدلية تستعصي على من تحولت انتماءاتهم، حتى الطائفية، إلى هذا المفهوم الضيق.
شكلت العقود الماضية من حكم البعث بنية مجتمعية، لها مفاهيمها التي حلت محلّ القيم والمفاهيم الإسلامية، ولعل بعض المصطلحات استمد قوته وشرعيته، حين عمل نظام الأسد على ربطه بقيم الإسلام، ليستمدّ بذلك وجوده وبقاءه في الحكم. وعلى سبيل المثال "القضية الفلسطينية"، وتتمثّل هذه المفاهيم بعدة محاور، يبدو أن أبرزها كان "الوطن، المواطنة، الوطنية"، إضافةً إلى أخرى، مثل: "العروبة والقومية، الإسلام المتطرّف"، لتصبح فيما بعد أفكاراً راسخة في العقول، وجب علينا، اليوم، وضعها في ميزان الشرع، وإلغاء ما حملته في طياتها من مغالطات تاريخية، وعقائدية، وسياسية، لأن مثل تلك المغالطات أفرزت مجتمعاً معتلاً ومشوّهاً.
نعود إلى الإجابة عن السؤال، ومن منطلق ما تعلّمناه، أو فهمناه، من منظور الإسلام، لنقول: الوطن وإن لم يرد ذكره صريحاً في القرآن الكريم، بصيغته هذه، فإن مدلولها أو مفهومها الأساسي أو الجوهري ورد مع تنوع في الصيغ التعبيرية، أو اللفظية، فقد ورد في صيغة "الديار، والدار، والأرض"، كما أشار العلماء.
فيما انقسم الناس بين طرفين، شط منهم في فهمه، وأحجم آخرون في حب أوطانهم، فبعضهم يرى أن حب الوطن من أركان الإيمان، وغالى فيه وأزبد وأرعد، وآخرون يرون أن حب الوطن شركٌ ووثنية، وبين هذا وذاك يأتي الطرف الوسط.
تصحيح المفاهيم وإعادة ربطها بقيم الإسلام، هي الوسيلة لتخليص المواطن العربي المسلم من حالة عدم التمييز بين الوطن وقائده.
الغاية، في النهاية، إعادة بناء المواطن بصورته الصحيحة قبل هدمه من بعض الأنظمة الفاسدة، ولعل أهم ما يحمله المواطن من سماتٍ تجعله مرتبطاً بأرضه ووطنه، هي العودة إلى إنسانيته التي فقدها حين فقد "كرامته"، وتنهي سنواتٍ من لعبة الأنظمة في تجيير المواطنة لصالحها، ورمي الناس بالعمالة.
شخصياً، أعتقد أن الوطن فكرة في النفس، أكثر منها تراباً نعيش فوقه، فمصر وطني كما سورية، وتركيا وغيرها من البلاد التي ترفع راية الإسلام، فالإسلام هو الإطار الذي يحدّد هذا المفهوم، ويضعه ضمن الإطار الصحيح.
وواقع الأمة يحملنا ليس فقط لننظر في تعريف الوطن ووجهة نظر الإسلام فيه فحسب، بل أعمق من ذلك، إلى بناء لبنة متماسكة، تحددها العقيدة الإسلامية، وتكسر حدود سايكس–بيكو.