في ظلّ حماية المحافظ!

23 مايو 2019
+ الخط -
في كل مرّة أراد فيها المحافظ، أن يكون هو سيّد الموقف بلا منازع، وهو القادر على فعل أيّ شيء بحكم وظيفته، كسلطة تنفيذية، لا سيما أنّه يمثل سيّد الوطن وقائده الهُمام، وهكذا كانت الصورة المرسومة في أذهان أبنائه الذين كان يُمثلهم رئيسهم.

السيد المحافظ، وبصفته الاعتبارية، هو الحاكم بأمره، ولا أحد سواه يمكنه لجم القرارات الصادرة، أو وقفها بحق المخالفين، بل إنه كان يصدّق عليها ويرسمها بطريقته الخاصة، وبحسب مزاجه، وكان في كل مرّة، يقف وبصورة مباشرة، في وجه أيّ صحافي يحاول النيل من الشركات والمؤسسات العامّة، والإدارات التي تتبع له شخصياً، بصورةٍ مباشرة، وبدون وجه حق!

انّه المحافظ، الرجل الأقوى، وهو فوق القانون الذي يمثل شريحة واسعة من الموظفين العاملين في الدولة، شاء من شاء وأبى من أبى!

والصحافة، والكل يعلم، في بلد صورته في أبعد حالاتها، يُفضّل المسؤول أن يكون بعيداً عن الشاشة. أي بعيداً عن التعريف به وبإنجازاته وقدراته الخارقة، سواء لجهة إيجابية كان يستحقها، ويمكن الإشارة إليها، أو سلبية يمكن أن ترتكبها الإدارة المعنية، ما يعني أن غضب السيد المحافظ سيأخذ دوره، ويشكل معها ردّة فعل عكسية على كل صحافي مهما كان وزنه، وقربه أو بعده عن السلطة، وسيتعرض للتوبيخ، إن لم يُجلد بالسياط، وسيكون للإدارة دورها حيال ما نشره عن هذه الجهة أو تلك.

وان كان الذي تناوله عنها، ونشر في مقالته، أو في متن تحقيقه الصحافي، الخلي من أي خطأ ما، إلا أنه من باب المحافظة على الإدارة المعنية، والتستّر عل مخالفاتها وتجاوزاتها، بل محاسبة الصحافي أولاً، ما يعني استدعاءه إلى مكتبه، الذي يمثل النظام والانضباط، وحماية مصالح الناس ورعايتها، كما يتراءى للجميع، وتراه يُشدّد، في الاجتماعات التي تعقد أسبوعياً، بحضور كافة مدراء الدوائر الحكومية في المحافظة، على كل من يفكر، لمجرد التفكير، مخالفة الأنظمة والقوانين، وفي الواقع هو من يقف، وبشكل حازم، فوق ذلك ويقف موقفاً سلبياً من الصحافي، ويحاسبه حساباً عسيراً، لمجرد لفته إلى خطأ أو تجاوز ما، ويصل الحال إلى شتمه بحضور المسؤول، أو مدير الدائرة المقصرّة في عملها، وقد يدفع به إلى أن يطلب من الجهة الإدارية المتضرّرة رفع دعوى قضائية ضده تحت أي مبرّر، بهدف الإساءة له، والقصاص منه، بذريعة الإساءة للنظام العام، فضلاً عن اختلاق مبررات ما أنزل الله من سلطان للإقلال من قيمته، وتصويره على أنه إنسان سيئ!


وكثيرة هي المواد الصحافية التي سبق وأن كتبتها بحق المسؤولين العاملين المخالفين لهذه التعليمات في الرَّقة، باعتباري كنت مراسلاً صحافياً لإحدى المؤسسات العاملة في هذا المجال.

ومن بينها ما سبق وأن كتب عن فرع الشركة العامّة للمخابز الآلية في الرَّقة باعتباره جهة خدمية تمس المواطن.. والرغيف، كما يعلم الجميع، هو حاجة ضرورية ومطلب ملحّ، فكانت الإدارة التي تشرف على هذا القطاع، تنتج يومياً كميات كبيرة من الخبز، وهذه الإدارة يتبع لها ثلاثة مخابز آلية وإنتاجها اليومي يتجاوز الـخمسين طناً، وفي كل مرّة يشكو المواطن من نقص الوزن المقرّر للربطة الواحدة، ورغم ذلك فانَّ سوء النوعية ما يغلب على إنتاجها السيئ، والمواطن المغلوب على أمره، لم يعد يهمّه النوع بقدر ما يبحث عن تأمين ربطة الخبز بعيداً عن الجودة التي أصبحت آخر همّه!.

وبطبيعة عملي، فإنّي كنت دائم الكتابة عن هذا القطاع، ما دفع بالإدارة إلى أن تقدمت بشكوى للمحافظ الذي هو الآخر لم يقف مكتوف الأيدي، باعتباره مستفيداً من واقع الإنتاج اليومي، وبكمياته الكبيرة، الذي أعطى بدوره الضوء الأخضر لمدير الفرع، في حينها بتشجيعه على تقديم شكواه إلى القضاء للنيل مني، والحد من النشر المتكرّر الذي لم يعد بحال منطقياً السكوت عنه، وما دام أنَّ الشكوى مدعومة من المحافظ الذي اتصل بدوره بالمحامي العام وأعلمه بأن هذا الصحافي طالما يثير زوابع مثيرة للدهشة، ويحاول الإساءة للقطاع العام، الذي يهدف إلى زعزعته والنيل منه، وبعد فترة طُلب مني الحضور الى دار المحكمة المعنية، ورغم مثولي أمام القاضي الذي كان مقتنعاً، إضافة إلى عدد من القضاة الذين يمثلون السلطة في المحافظة، بما كنت أنشر إلا أنه صدّر قراره التعسّفي بسجني ثلاثة أشهر، فضلاً عن دفع غرامة مالية تجاوزت المائتي ألف ليرة سورية، بما يعادل أربعة آلاف دولار في حينها.

ولحسن الحظ، وبعد فترة من استصدار القرار القضائي، صدر عفو عام عن رئيس الجمهورية عن أمثال هذه الأحكام المرتكبة، والاكتفاء بدفع المبلغ المقرّر، وبعد فترة وجيزة، التقيت بمدير الفرع، وفي حينها علمت من أشخاص مقربين منه في المديرية التي يعمل فيها، على أنه وبجهود شخصية، تمكن من تحصيله على شهادة علمية بطرق غير مشروعة من دول أوروبا الشرقية، وتحصيلها تم بعد دفع المعلوم الذي سبق وأن استفاد منه من إدارته لفرع شركة المخابز بطرق غير مشروعة، وتمكن من تحصيلها، وهو الطالب الذي لم تمكّنه ظروف العمل من السفر خارج القطر، ولو لساعة واحدة، بل كان قائماً طوال الوقت على رأس عمله، ومشغولاً في إرضاء المسؤولين، وكسب ما يمكنه ما دام أنه يقوم بشغل وظيفة تدرّ عليه دخلاً محترماً، فكيف تمكن من نيل شهادة الدكتوراه في القانون، وغيره كثير، وهو لا يعرف حتى لغة البلد الذي حصل منها على الشهادة التي ستفتح له آفاقاً وظيفية أكثر تميّزاً، أو الاكتفاء، على الأقل، المحافظة على كرسيه الوظيفي، إن لم تدفع به إلى تحصيل امتيازات أخرى أكثر رفعةً، وهذا ما يحدث في البلد اليوم، وللأسف، بالنسبة إلى أعداد كثيرة من حملة الشهادات العلمية التي تم تحصيلها وصارت تمكنّهم من شغل وظائف مهمّة وحسّاسة، بدفع المعلوم أولاً بعيداً عن التحصيل العلمي ودرجاته المتسلسلة التي يدركها الجميع.

وفي هذا المقام نتساءل، لعلّ من المعقول أن محافظاً بهذا الحجم يصل به الحال إلى أن يقف إلى جانب المسؤول وحمايته، وإخفاء الحقيقة وطمسها عن الناس. بمعنى حماية المسؤول بدلاً من أن يكون مدافعاً عن حقوق الناس الذين أؤتمن على حياتهم، وتوفير احتياجاتهم وتسهيل متطلباتهم!

هذه عينة مما كان يحدث، وما زال، مع الكثير من الزملاء الصحافيين في مدينة الرّقة، وفي سورية، بصورةٍ عامة، فكيف بالله عليكم يمكن للصحافي من أن يقوم بدوره على أكمل وجه في ظل أمثال هذا المحافظ وغيره، الذي يُغمضُ عينه عن الحقيقة، ويدافع عن المسؤولين المخالفين للقرارات والتعليمات والصادرة، برغم أنف الجميع!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.