في طبيعة التحالف الإماراتي الإسرائيلي
يخطئ من يعتقد أن إعلان الإمارات عزمها تطبيع علاقاتها مع إسرائيل محاولة من الأخيرة لإنقاذ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في موسم انتخابي صعب، أو للتقرّب من إسرائيل ولوبيها في واشنطن، أو مجرّد تطبيع فجّ مع إسرائيل ومساعٍ لإقامة علاقات علنية معها. وفي الحقيقة، نحن أمام مساعٍ لبناء تحالف بين الإمارات والدولة العبرية، ولإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في المنطقة، وذلك كما تُفيد مؤشرات مختلفة، في مقدمتها تصريحات بعض كبار المسؤولين الإماراتيين أنفسهم. ويعبر الإعلان الإماراتي الإسرائيلي عن توجّه استراتيجي لقادة الإمارات، يجب التوقف عنده وفهم أسبابه وتبعاته.
بعد إعلان نية الجانبين تطبيع علاقاتهما، أدلى وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، بتصريحات لوسائل إعلام إسرائيلية، أكد فيها أن مساعي بلاده إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ليست إجراء رمزياً، لأن أبوظبي تريد أن ترى علاقات ثنائية واسعة يتم تطبيقها "في أسرع وقت ممكن"، موضحاً "نحن لا نتحدّث عن عملية بطيئة للغاية أو تراكمية.. هناك قطاعات نريد أن نطوّرها مع إسرائيل"، وأن "فرقاً تتقابل للنقاش حول عديدٍ من مساحات المصالح المشتركة في إسرائيل والإمارات". ومن بين تلك القطاعات الزراعة والأمن الغذائي والأمن الفضائي (الإلكتروني) والسياحة والتكنولوجيا والتجارة.
وكتب يوسف العتيبة؛ سفير الإمارات في واشنطن، في يونيو/ حزيران الماضي، مقاله بالعبرية في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، وجاء فيه أن "الإمارات وإسرائيل يمكنهما تشكيل تعاون أمني أقرب وأكثر فعالية"، وأنهما يمكنهما "توسيع روابطهما الاقتصادية والمالية"، هذا بالإضافة إلى التعاون في مجالات أخرى، مثل "المياه والأمن الغذائي والتكنولوجيا والعلوم"، موضحاً أن "الإمارات يمكنها أن تكون نافذة مفتوحة تربط الإسرائيليين بالمنطقة والعالم، بحكم أن الإمارات باتت مركزاً دولياً للطيران والنقل والتعليم والإعلام والثقافة".
يعبر الإعلان الإماراتي الإسرائيلي عن توجّه استراتيجي لقادة الإمارات، يجب التوقف عنده وفهم أسبابه وتبعاته
هذا يعني أننا أمام محاولة لأكثر من تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، فكما ذكر محللون كثيرون، ليست الإمارات من دول الطوق، ولم تكن في حالة حربٍ مع إسرائيل، كما أن العلاقات القوية والعلنية في تزايد. وهذا يعني أن الإعلان أخيراً يتخطّى فكرة التطبيع في حد ذاتها، فالتطبيع بين البلدين قائم فعلياً، ولا يحتاج إلى كلّ تلك الشراكات. في المقابل، انشغل محللون كثيرون بتوقيت الإعلان، وأنه جاء قبيل انتخابات الرئاسية الأميركية التي يواجه فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفاً صعباً، بسبب تردي إدارته نتيجة أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية المترتبة عليها، وصعود أسهم منافسه الديمقراطي، جوزيف بايدن، وكيف أن الإعلان بمثابة هدية من الإمارات لترامب، ومحاولة لإنقاذه وإبراز صورته رجل سلام قادراً على عقد صفقات خارجية كبرى، تتخطّى ما يحلم به الديمقراطيون. كذلك رأى آخرون الاتفاقية هدية إماراتية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نفسه، والذي يواجه مظاهرات جماهيرية متنامية ضده بسبب فشله في إدارة أزمة كورونا واتهامات الفساد.
جاء الإعلان عن الإتفاق الإماراتي الإسرائيلي قبيل انتخابات الرئاسية الأميركية التي يواجه فيها ترامب موقفاً صعباً
لو كان التفسير السابق كافياً لما اضطر قادة الإمارات للحديث عن رغبتهم في تقوية العلاقة مع إسرائيل إلى هذا المستوى وبهذه الكيفية والسرعة. كان يكفيهم مجرّد إعلان تطبيع يحتفل به ترامب ونتنياهو، فالرأي العام الأميركي لن يبحث في درجة تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، ولكن تصريحات المسؤولين الإماراتيين ودراسات أخرى توضح أننا أمام توجّه أصيل للسياسة الخارجية الإماراتية وسباق مع الزمن لتقوية العلاقات الإماراتية الإسرائيلية لتحقيق أهداف استراتيجية مختلفة. ومن ذلك أن يوسف العتيبة يكتب، في مقاله المنشور بالعبرية، أن الإمارات وإسرائيل صاحبتا "أكثر الجيوش قدرة" و"أكثر الاقتصادات تقدّماً وتنوّعاً" في المنطقة، في إشارة ضمنية إلى أن قادة الإمارات ينطلقون في مساعيهم إلى التحالف مع إسرائيل من اعتقادهم بأنهم يقودون الدولة العربية الأكثر قدرة عسكرياً واقتصادياً، وأن علاقتهم بإسرائيل جزء من مشروع استراتيجي لتأكيد تقدّمهم العسكري والاقتصادي في المنطقة وضمانه.
بات شعور المسؤولين الإماراتيين بالتفوق وبالرغبة في تغيير وجه المنطقة جزءاً واضحاً من توجههم السياسي، تبرزه دراسات حديثة صادرة عن بعض أكبر مراكز الأبحاث الدولية، كأبحاث صدرت أخيراً عن مركز تشاتم هاوس البريطاني والمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية. وهو توجّه يرتبط بولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، والذي يسعى إلى بناء إمبراطورية تجارية، تحميها قوة عسكرية وشبكة علاقات استراتيجية متنامية. وقد تبلور هذا التوجه بوضوح، كما تفيد الدراسات السابقة، مع الربيع العربي الذي عمّق مخاوف قادة الإمارات من التغيير السياسي، وأبرز نشاط الإمارات في ترويج نموذجها القائم على النمو الاقتصادي، في ظلّ نظام أمني بوليسي صارم، ودعم صعود قيادات سياسية موالية لها في دولة مختلفة، مثل عبد الفتاح السيسي في مصر ومحمد بن سلمان في السعودية وخليفة حفتر في ليبيا، إذ ينظر هؤلاء إلى بن زايد على أنه قدوة ملهمة لهم، كما تذكر تقارير دولية مختلفة.
ويتحدث تقرير بعنوان "روابط إسرائيل المتنامية مع دول الخليج" صدر عن مركز إتلانتيك كونسيل الأميركي في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) عن العلاقات المتنامية بين إسرائيل والإمارات والسعودية ودول خليجية أخرى خلال السنوات الأخيرة، إذ زار نتنياهو عُمان في 2018، ودعيت إسرائيل للمشاركة في دبي إكسبو 2021، ويشارك طيارون إماراتيون وإسرائيليون في مناورات دولية مشتركة عديدة، واستثمرت صناديق سعودية وإماراتية مليارات في مشاريع لملياردير أميركي إسرائيلي يدعى آدم نيومان، وتتعاون شركة موانئ دبي في عدة مشاريع مع شركات تابعة للملياردير الإسرائيلي، أدان أوفر. هذا بالإضافة إلى تقارير عن مساعي السعودية إلى الاستثمار في مشاريع إسرائيل لتصدير الغاز إلى أوروبا من خلال مد أنابيب في البحر المتوسط، وهي مشاريع تدعمها الإمارات بقوة، لكي ينافس الغاز الإسرائيلي الغاز القطري في أوروبا، وللتضييق على حقوق تركيا في غاز المتوسط.
استثمرت صناديق سعودية وإماراتية مليارات في مشاريع لملياردير أميركي إسرائيلي، وتتعاون شركة موانئ دبي في مشاريع مع شركات تابعة لملياردير إسرائيلي
وترصد الدراسة أوجه التعاون الكثيرة بين بعض دول الخليج وإسرائيل وأسبابه، وفي مقدمتها مواجهة إيران وتركيا، وتراجع الدور الأميركي في المنطقة، ما يدفع بعض دول الخليج إلى التعاون الأمني مع إسرائيل والاعتماد عليها، والاستفادة من تطوّر تكنولوجيا السلاح الإسرائيلية، وخصوصاً في مجال التجسّس الداخلي، هذا بالإضافة إلى استيراد بعض الأسلحة الإسرائيلية سرّاً، والتعاون التجاري والاقتصادي، والاستفادة من تكنولوجيا الزراعة والري الإسرائيلية.
وهذا يعني أننا أمام تحالف حقيقي متنامٍ بين الإمارات وإسرائيل، يتخطّى فكرة التطبيع الطوعي، أو المفروض من الخارج، نابع من توجّه استراتيجي لقادة الإمارات الذين يرون في التحالف مع إسرائيل ضرورة لضمان تفوقهم العسكري والاقتصادي في المنطقة، وأن التحالف مع إسرائيل سوف يضمن لهم دعم إسرائيل في واشنطن للحصول على مزيدٍ من نظم الأسلحة المتقدمة، والتعاون الاستخباراتي والأمني ضد خصومهم المشتركين، ومزيد من التوسع الاقتصادي المشترك، وإعادة بناء المعسكرات وموازين القوى الإقليمية في مواجهةٍ ليس فقط إيران، ولكن أطرافاً أخرى، كالتحالف التركي القطري، خصوصاً من خلال تشجيع مشاريع إسرائيل واليونان ومصر، للتنقيب عن غاز شرق المتوسط، وتصديره إلى أوروبا وإقصاء تركيا، ومن خلال دعم الديكتاتوريات والاستعانة بروسيا والصين وتقليل الاعتماد على أوروبا والولايات المتحدة، ومواجهة مطالب بعض حكوماتهم بالديمقراطية والحريات، وهذا ما يفسّر سرعة ترحيب الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالإعلان الإماراتي الإسرائيلي، وحديث المسؤولين الأميركيين عن أنّ دولاً عربية أخرى في طريقها إلى إعلان تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. نحن أمام تحالفٍ متنامٍ بين بعض الدول العربية وإسرائيل، تتزّعمه الإمارات، يهدف إلى إعادة بناء المعسكرات وموازين القوى المنطقة. تحالف كان يحلم به بعض متشدّدي المحافظين الجدد واليمين المتشدد وأنصار إسرائيل، ولكنه بات يتبلور أمام أعيننا على أرض الواقع، انطلاقاً من المصالح المتصوّرة لبعض الحكام العرب.