تجربة الاعتقال وجريمة الوعي لدى شابّ مصري

12 يونيو 2024
+ الخط -

 

تعاني الأوساط الثقافية والسياسة المصرية من قلة المكتوب ومن ضعف تبادل الخبرات. جرى القضاء على جيل من الناشطين بالقتل والاعتقال والتهجير، وتم القضاء على خبراتهم بعدم تسجيلها. وغياب التسجيل يدمّر الذاكرة الجماعية للمصريين، خصوصاً المعنيين منهم بالشأن العام.

وهنا تأتي أهمية كتاب "الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب أو يتوتّر" للصحافي ومنتج الأفلام الوثائقية المصري، أحمد زين، وهو سيرة ذاتية كتبها زين في قالب روائي سهل وجذّاب يسجل فيها خبراته السياسية خلال سنوات نشأته (من مواليد 1976) وحتى عامه الجامعي الثاني، وهو عام اعتقاله بسبب نشاطه الطلابي في جامعة القاهرة. تدور نصف أحداث الكتاب تقريبا حول تجربة الاعتقال نفسها، وترصد تفاصيلها الدقيقة، منذ لحظة الاعتقال من قلب جامعة القاهرة وحتى الإفراج عن زين من أحد السجون المصرية مرورا بالاحتجاز في أمن الدولة والتحقيق في النيابة، أما النصف الثاني من الكتاب فيكرّسه زين في محاولة فهم أسباب اعتقاله، إذ يرصد ظروف نشأته وبناء وعيه السياسي بسبب والده الذي عانى أيضا تجربة الاعتقال في سنوات الدراسة خلال عهد جمال عبد الناصر. وبناء عليه، يوفر الكتاب قراءة ممتعة، لا تخلو من ألم، عن تجارب النشطاء السياسيين خلال النصف الأول من عهد مبارك، وتوفر إدانة عميقة له وللنظام السياسي الذي يحكم مصر منذ الخمسينيات.

سجن والد زين في عام 1954 خلال عهد عبد الناصر بسبب تبرّعه بقرش صاغ واحد لمساعدة بعض جيرانه من الإخوان المسلمين الذين اعتُقلوا، ولمّا خرج من السجن بعد عدة سنوات ترك دراسته الجامعية ليعمل وينفق على إخوته، وترك أي عمل عام أو سياسي اتقاء لشر النظام، ولكن نظام عبد الناصر سجنه مرّة أخرى في 1965. وهنا يكتب زين أن "النظام لا يزال يعتبر كل من عمل بالسياسة، وإن هجرها، خطرا عليه، ومع كل حدث كبير يقلّب في دفاترة القديمة ليتعقبهم".

كانت جريمة زين الوعي، فقد نشأ في بيت فيه أب مرّ بتجربة سياسية، أب يشاهد الأخبار ويتفاعل مع بعض الأحداث، أب فعل كل ما في وسعه ليمنع أطفاله من الانشغال بالعمل العام والسياسة، ولكنه لم ينجح.

تحوّل زين إلى معتقل، وتعرّض خلال الاعتقال للتعذيب بشكل متكرّر، وحُبس في ظروف غير آدمية

يتحدّث زين عن تشكّل وعيه من خلال قراءة أوراق الصحف المستخدمة في لفّ "قراطيس" الطعمية (الفلافل) وقصص الأطفال، ويتحدّث عن اهتمام أسرته، وهو في الخامسة، باغتيال أنور السادات، وعن قراءة للأخبار في الإذاعة المدرسية، وانتفاضة الحجارة، وسماع راديو بي بي سي في المنزل، وعن مسرحية مدرسية تمجد شهداء المقاومة المصرية للاحتلال قبل أن يصبح هذا التمجيد ممنوعا وجريمة يمكن العقاب عليها. وفي النهاية، يتحدّث عن انضمامه إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة في عام 1995، وفوزه برئاسة اتحاد الطلاب وهو في عامه الثاني (1996) ابن تسعة عشر عاما.

جريمة زين كانت الوعي المبكر والنشأة في ظروف لا يفهمها، فالكتاب محاولة يائسة للبحث عن المعنى، فكل شيء عن الشاب الصغير المعتقل غير مفهوم. لا يفهم سبب اعتقاله بعد أن ذهب يوم فوزه في انتخابات اتحاد الطلاب وبناء على نصيحة زميل شجّعه للسؤال عن زملاء اعتقلهم "أمن الدولة" للمشاركة في مظاهرة. كانت جريمة زين أنه امتلك بعض الشجاعة وربما السذاجة لكي يذهب للسؤال عن زملائه المعتقلين.

تحوّل زين إلى معتقل، وتعرّض خلال الاعتقال للتعذيب بشكل متكرّر، وحُبس في ظروف غير آدمية، ولُفقت له تهم لم يرتكبها، وأُودع في أحد السجون قبل أن يفرج عنه بعد أسابيع من الاعتقال وقد مرّ بتجرية شديدة الألم.

يفضح الكتاب عبثية القمع في مصر، فهو يمارس بشكل مفرط بسبب غياب المحاسبة، وبدون مبرّر منطقي أو حقيقي

يصف الكتاب بعض ما تعرّض له زين من تعذيب بالتفصيل، وإن كان غير مفرط. يصف تجربه السجن وظروفها غير الآدمية. يصف أحاديث الجنود والضباط وهم يحققون معه ويعذّبونه وتهديداتهم له بالمزيد وكيف أنهم سوف يتعقّبونه للأبد. ولا يتوقف عن طرح أسئلة شديدة الأهمية عن معنى ما يحدُث، فلم يدّعِ زين البطولة، ولم يتحدّث بصفته بطلاً أو قيادياً سياسياً، وإنما هو شاب صغير في التاسعة عشرة من عمره جرى اعتقاله، ويتعرّض لأقصى أنواع التعذيب من ناسٍ لا يعرفهم ولا يحمل ضغينة شخصية تجاه أيٍّ منهم ولا يفهم سبب كل ما يحدُث.

كان كل شيء بلا معنى إلى حد السخرية، وهي سخرية أجادها زين وخفّف بها آلام شهادته القاسية، فالضباط يرفضون زيارة حسني مبارك إسرائيل ويبرّرونها في الوقت نفسه حتى لا يشمت المعتقلون، والمعتقلون يبالغون في تفسير كل شيء وتأويله، لأنهم سجناء في مساحة صغيرة ولا يفهمون ما يحدُث. ويبالغ الضباط في تعذيبه رغم صغر سنه وشعوره الذاتي بعدم الأهمية وبعدم امتلاك ما يمكن أن يمنحه لهم أو يوقف كل هذه المعاناة، وتجربة الاعتقال نفسها تمر لها بدون منطق يبرر بدايتها أو نهايته.

ولهذا يعدّ الكتاب وثيقة هامة للأسباب التالية: أولاً: لأنه وثيقة أدبية بالأساس مكتوبة بلغة سهلة وممتعة للغاية، ما يجعلها أقرب إلى الرواية السياسة، وقد يشجّع بعض الناس على قراءته وفهم تجارب المعتقلين السياسيين. ثانياً: تسجيل تجربة الاعتقال نفسها من أهم مزايا الكتاب، فهو يغوص في عالم سرّي ويحكي عنه بالتفصيل ليقدّم شهادة مهمة عن معاناة عشرات الآلاف من المصريين، وربما مئات الآلاف، الذين مرّوا بهذه التجربة القاسية. ثالثاً: يمثّل الكتاب إدانة جديدة لعهد مبارك ولنظام 1952 وما اقترفه في حقّ أبرياء كثيرين من اعتقال وظلم وتعذيب. تسجل خبرة الاعتقال شهادة إدانة هامة لما اقترفه عهد مبارك ومؤسساته الأمنية في حقّ بعض من حاولوا التغيير. تسجيل الخبرة يحافظ عليها من أن تمحى أو تنسى بمرور الزمن. رابعاً: يفضح الكتاب عبثية القمع في مصر، فهو يمارس بشكل مفرط بسبب غياب المحاسبة، وبدون مبرّر منطقي أو حقيقي. فهو يطاول أبرياء كثيرين ولا يخدم هدفاً معيناً كجمع المعلومات مثلا. فلو كانت المؤسّسات الأمنية حريصة من البداية على جمع معلومات أمنية جادّة لما اعتقلت طلاباً صغاراً شاركوا في مظاهرة أو يسألون عن زملاء لهم، وما إذا كانت عرضتهم لكل هذا التعذيب والامتهان. خامساً: يكشف الكتاب كيف تحوّل الوعي السياسي والاهتمام بالأمور العامة في بلادنا إلى جريمة لا تُغتفر. فقبل الإفراج عن زين حذّره الضابط بأنه معاناته لن تنتهي. وأن لعنة اعتقاله أو نشاطه العام سوف تظل تلاحقه وتلاحق أولاده وربما أحفاده للأبد. ويقول زين إن نصيحة الضباط كانت من أصدق ما قيل لها خلال فترة الاعتقال.

كتاب يبقى قراءةً ضرورية وتسجيلاً مهمّاً لتجربة سياسية وإنسانية عميقة وإدانة قوية لعهد مبارك ولتجريم الوعي والعمل السياسي في مصر

ينتهي الكتاب سريعا بعد الافراج عن زين من المعتقل، وتمضيته فترة في منزله يحاول الاستفشاء جسديا ومعنويا من تجربة الاعتقال، كما يتحدّث عن عودته إلى الجامعة، وحرصه، في البداية، على عدم الانخراط في العمل العام، وخصوصاً المسيرات والمظاهرات مرّة أخرى، حتى لا يتعرّض للاعتقال مجدّدا، ولكن الأحداث وضميره ووعيه يدفعانه مرّة أخرى للمشاركة في المظاهرات. وهو ما يحتفل به زين، في نهاية الكتاب، باعتباره انتصارا على تجربة الاعتقال نفسها.

يتركك الكتاب في حاجة لمعرفة المزيد، ماذا سيحدُث لزين بعد التخرج من الجامعة وخلال فترة البحث عن عمل وقبل 25 يناير وبعدها؟ كيف ستُلاحقه لعنة الوعي والانشغال بالعمل العام لبقية حياته كما هدّده الضابط الذي ترتعش فتحتا أنفه حين يغضب؟

ويبقى الكتاب قراءة ضرورية وتسجيلاً مهمّاً لتجربة سياسية وإنسانية عميقة وإدانة قوية لعهد مبارك ولتجريم الوعي والعمل السياسي في مصر، ولفقدان المعنى السياسي أو ما يسمّيه زين "بالعبث".