في ذكر عاشق بغداد

17 فبراير 2016

ظل فؤاد التكرلي عاشقاً لبغداد

+ الخط -
في زمن الخيبات المتلاحقة، والسقوط المجاني في بلاد الرافدين، نجد بعض العزاء في ذكر واحد من عشاق بغداد، بعد ثماني سنوات يابساتٍ على غيابه، فؤاد التكرلي البغدادي العريق، الذي لو يكن روائياً لكان شاعراً، وإنْ لم يجرب كتابة الشعر، تسكن ذاكرته قطعة من بغداد، تلك هي محلة باب الشيخ التي تقع في الجانب الشرقي من المدينة، وتضم مرقد الشيخ الصوفي، الجليل عبدالقادر الكيلاني، وقد فتح عيونه عليها، مقيماً في بيت عتيق بني من الطين واللّبن (بكسر اللام والباء)، يحوي حديقة صغيرة فيها ثلاث شجيرات، زيتون ورمان وليمون، وقد ظل هذا المكان شاخصاً في ذاكرته، وإن كان غادره، وهو طفل في السادسة.
قال لي، وكنت أستنطقه قبل رحيله بشهور ضمن مشروع "حوارات مع رواد عراقيين" لم يقدر له أن يستكمل، إن خيطاً سرياً ظل يربطه بذلك البيت الذي تحول إلى خرائب وأطلال، كان يزورها كلما سنحت له فرصة، وشكل جزءاً من تاريخه الشخصي، يحمله معه أينما رحل، روايته "الرجع البعيد"، بدأت في ذلك البيت، ونمت في محلة باب الشيخ، بشخوصها ومشكلاتها وأحداثها، وكذا رواياته الأخرى، وهو على ما يُعرف، مقل في الكتابة مبدع، ومثرٍ فيها.
ظلت ذاكرة التكرلي إلى آخر لحظة تختزن معالم بغداد التي "كانت تمنحنا حالة الرضا، والثقة بالنفس، وتحمل علامات فرح، تجعلنا نتقبل الحياة، ونتعاطى معها بنشاط"، كما قال لي، وذكر بالخير "المقهى البرازيلي" و"كافيه سويس" و"غاردينيا"، ومكتبة مكنزي" و"مكتبة كورونيت" و"مطاعم السمك المسقوف" و"شارع أبي نؤاس الجميل" و"رائحة القهوة"، ثم ما لبث أن أطلق حسرةً حرّى: "كانت يومذاك توجد مدينة، عالم متحضر حي، كل هذا اختفى فجأة، والأماكن الأليفة تترك جرحاً عندما تختفي".
بدأت "المدينة" تنهار تدريجياً منذ التغيير الذي حدث في 14 من تموز 1958، يرى التكرلي "أن النخب الفاعلة في المجتمع من سياسيين ومثقفين مهدت للتغيير، لكن الذي سرق هذا المنجز مجموعة من العسكريين الذين يجهلون طبيعة الأوضاع، وليست لديهم خلفية ثقافية أو معرفية تؤهلهم لمعالجة مشكلات البلد، وهذا ما أوقعنا في مأساة".
يصف التكرلي نفسه يسارياً، وإن لم يكن انتمى لحركة سياسية، "لأن السياسة لعبة قذرة تسقط الأديب أو الروائي في مطبات ومواقف، قد لا يرضاها لنفسه، ورسالته أن يقدم إنجازاً أدبياً مؤثراً وفاعلاً، وأن يجنب نفسه متاهات العمل السياسي المباشر". هو يتهم كل الحركات التي تسيدت المشهد السياسي في العراق، في نصف القرن الأخير، بأنها "لم تلتفت لمصلحة الوطن والمواطن، كانت تريد السلطة فقط، وكان أن دخلت في ممارساتٍ غير منضبطة، أثارت العداوات والأحقاد، وجرت إلى الوضع الكارثي الماثل، حتى أصبح العراق اليوم أشبه بساحةٍ تلعب فيها الكلاب كما تشاء".
هل وضع التكرلي هذه الرؤية في عمل روائي؟ "على الروائي الانتظار، حتى يختمر العمل الروائي لديه، كي يتفادى السقوط في هوّة المباشرة، وضع العراق اليوم يشبه ما حدث في هيروشيما، مع فارق أن ما حدث هناك هو موت الآلاف في لحظةٍ واحدة، فيما يزخر الوضع العراقي بالموت اليومي، وعلى أقساط، وهذا الأمر أكثر مأساوية، وحتى في واقعة هيروشيما كتب الصحافيون عشرات الريبورتاجات، وقدموا وصفاً مباشراً، لكن الروائيين تريثوا".
كتب التكرلي، بعد الغزو الأميركي، ثلاث حوارياتٍ، عبر فيها عن رؤيته لحال بلاده، وقد وجد "الحوارية أقدر في التعبير عن حدث راهن، فيما الشكل الروائي لا يمكنه استيعاب الحدث بشكل سريع، حيث السلاح يتحكم، والمليشيات هي التي تسيطر، وليس ثمة فكر، ولا منطق".
تعرّض التكرلي لتهمة باطلة من أصدقاء له يساريين، زعموا أنه كان يحقق، بحكم موقعه الوظيفي قاضياً، مع شيوعيين اعتقلتهم حكومة (البعث) بعد انقلاب فبراير/ شباط، وتعرّضوا للتعذيب لم يشأ التكرلي أن يرد على دعاواهم بسوى عبارة "سامحهم الله".
تعرّض للظلم مرة أخرى، عندما تقرر منحه، في نهاية عقد الثمانينيات، جائزة صدام للآداب بقرار من لجنة الجائزة، ثم ما لبث أن أسقط القرار، وأعطيت الجائزة للروائي المصري، فتحي غانم، بإشارة من صدام حسين الذي كان يرتبط به بصلةٍ عندما كان لاجئاً في مصر.
ظل التكرلي عاشقاً لبغداد على طول غربته عنها. وفي آخر أيامه، كان يخطط لعمل كبير، يروي قصة عشقه هذا، لكنه رحل قبل أن يحقق أمنيته.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"