23 يناير 2020
في ذكرى مجزرة الكيماوي: المجرم حليفاً ضد الإرهاب
لم تبرز مجزرة ارتكبها النظام الأسدي كما برزت مجزرة الكيماوي، فعلى الرغم من عدد الضحايا الكبير الذي وقع نتيجة مجزرة حماة عام 1982، وتراوحت تقديراته حول 35 ألفا، أو ضحايا مجزرة سجن تدمر الذين قاربوا الألف، أو ضحايا مجزرة مخيم تل الزعتر في لبنان، وذلك كله في عهد الأسد الأب، فإن مجزرة الكيماوي التي وقعت في عهد الابن قبل ثلاث سنوات، مازالت الأكثر بروزا بين مجازر هذا النظام، لا لفاجعيتها الإنسانية أو سلاحها الأكثر فظاعة فقط، بل لما صاحبها وما تكشف بعدها من سياساتٍ دولية أيضاً.
فإذا كانت المجازر القديمة قد ارتكبت في مراحل سابقة من سيطرة دولة الصمت السورية، وعزلتها خلف أسوار نظام الأسد، ولم تنتشر أخبارها إلا بصور محدودة ومتأخرة، فإن مجزرة الكيماوي ارتكبت تحت سمع العالم ونظره كله في مرحلة عولمة وسائل الاتصال وفورية النشر في القرية الكونية. ففي فجر الأربعاء 21 أغسطس/ آب 2013، أفاق أهالي بلدتي زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية على قصف بصواريخ أرض- أرض، محملة بغازات سامة، تأكد لاحقاً أنها غاز السارين المدمر للأعصاب، تلاه قصف عنيف استمر حتى الصباح؛ وتزامناً مع ذلك، شهدت بلدة معضمية الشام في الغوطة الغربية قصفًا مماثلًا. ونتيجة ذلك الاستخدام المكثف للسلاح الكيماوي، وقع خلال ساعات حوالي 1400 ضحية، كان أكثر من ربعهم نساء وأطفالا. وكانوا جميعا نائمين في بيوتهم فماتوا في مضاجعهم. وكان الفارق الزمني بين القصف وبدء الأعراض نحو نصف دقيقة. ولذلك، لم يتمكن المصابون، في حالات عديدة، من التحرّك أو الهرب، وانهاروا فور ظهور مختلف الأعراض الكيماوية المعروفة طبياً من إغماء وغثيان وتشنج واختناق وعماء وشلل، فضلا عن أنه لم يسلم أحد من الكوادر الطبية والإسعافية من بعض درجات الإصابة، بسبب عدم توفر أقنعة أو بزّات واقية في أثناء قيامهم بعمليات الإخلاء والإسعاف. أما أطفال الغوطتين فكانت صور المصابين منهم أشد صدمة، فيما كانت معاناة النساء المصابات مضاعفة، نظراً لضيق الأماكن وعدم وجود ردهات خاصةٍ، تتيح خلع ثياب النساء قبل غسلهن من آثار المواد السامة.
وبسبب نقل الشهداء والمصابين إلى مختلف النقاط الطبية في بلدات الغوطة ومدنها، تعذّر على كثيرين من الأهالي إيجاد أبنائهم وذويهم بالسرعة المطلوبة، لأنه جرى إخراجهم بثياب نومهم من غير هوياتٍ شخصيةٍ، أو أي شيء يدل على شخصيتهم. ومع الحر الشديد لشهر أغسطس/ آب، وعدم وجود كهرباء وثلاجات لحفظ الجثامين، كان هناك اضطرار في حالاتٍ عديدة لدفن الشهداء المجهولين، قبل تعرف ذويهم إليهم ووداعهم.
وعلى الرغم من كل الادعاءات ومحاولات التهرّب، كانت مسؤولية النظام شديدة الوضوح
يومها، من جهة امتلاكه مخزونات السلاح الكيماوي المعروفة، والتي طالما اعتبرها سلاح التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، أو من جهة شهادات المراقبين الدوليين والنشر المباشر لصورها ووثائقها. ويومها، ضجّ العالم ببيانات التنديد والاستنكار لتلك الإبادة الجماعية، وتنادى مسؤولون دوليون ورؤساء وقادة دول غربية عديدون إلى التحرك الدولي لعقاب النظام المجرم الذي تجاوز الخط الأحمر، والمتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية، وكان من أبرزهم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
لكن تلك البيانات والتحركات كلها، والتي حبس العالم أنفاسه على وقع ضجيجها وتوقع ضرباتها، لم تتجاوز بدورها الإعلانات الصحفية، وانتهت إلى مبادرةٍ تقدّمت بها حكومة روسيا الاتحادية، من أجل تسليم الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها تحت الرقابة الدولية، لتجنيب النظام السوري تلك الضربات، وسارع وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، إلى إعلان قبول سورية تلك المبادرة.
وفق ذلك، تم، من جهةٍ أولى، تسلم سلاح الجريمة والسكوت عنها، ومسحت كل الخطوط الحمراء المتعلقة بها، انطلاقا من تنسيق أميركي روسي حولها، وسلم النظام السوري المجرم خزانته من السلاح الكيماوي إلى مندوبي لجنة الأمم المتحدة التي قبلت ذلك دفعات متتالية، على الرغم من الشكوك المرافقة. وامتد السكوت عن الجريمة إلى السكوت عن المجرم وجرائمه اللاحقة، حيث لم يعد يخلو يوم لاحق من أخبار القصف الذي تصبه طائرات النظام وحليفه الروسي على مدن وبلدات سورية، والذي تدمر قذائفه وبراميلة المتفجرة العمران والبيئة، كما تصيب أعداداً متزايدة من السكان والمدنيين الذين صارت الفظائع التي تودي بهم خبراً معتادا في كل يوم.
استمر السكوت عن الجريمة السورية، وصار سياسةً رسميةً دولية، كرّسها التنسيق اللاحق والمستمر بين الراعيين، الأميركي والروسي، للملف السوري، وهما يتوزعان الأدوار في تغطية الجريمة مجدداً، تحت ستار محاربة الإرهاب. حيث يقصف الأميركان عن بعد، وفي الشمال ضد داعش، ودعماً لمشروع كردي، بينما يقصف الروس دعما للنظام، عن قرب ومن قواعد مباشرة لهم في سورية ، ثم في إيران، ولا بأس أن يستمر ذلك بموازاة مفاوضاتٍ لا تكاد تنعقد حتى تنفض بدون طائل.
وبدلا من سوق الرئيس السوري المجرم إلى محكمة الجنايات الدولية، كما أمثاله من مجرمي العصر في البوسنة ورواندا، ها هو السكوت عن جرائمه السابقة والمستمرة يتحول إلى إعادة تأهيل له ولنظامه، فيصبح حليفاً ضرورياً لمحاربة الإرهاب، في ظل ما صار أشبه بحالة طوارئ دولية، تتعطل فيها القيم، وتتوارى الشرعة الدولية وحقوق الإنسان.
فإذا كانت المجازر القديمة قد ارتكبت في مراحل سابقة من سيطرة دولة الصمت السورية، وعزلتها خلف أسوار نظام الأسد، ولم تنتشر أخبارها إلا بصور محدودة ومتأخرة، فإن مجزرة الكيماوي ارتكبت تحت سمع العالم ونظره كله في مرحلة عولمة وسائل الاتصال وفورية النشر في القرية الكونية. ففي فجر الأربعاء 21 أغسطس/ آب 2013، أفاق أهالي بلدتي زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية على قصف بصواريخ أرض- أرض، محملة بغازات سامة، تأكد لاحقاً أنها غاز السارين المدمر للأعصاب، تلاه قصف عنيف استمر حتى الصباح؛ وتزامناً مع ذلك، شهدت بلدة معضمية الشام في الغوطة الغربية قصفًا مماثلًا. ونتيجة ذلك الاستخدام المكثف للسلاح الكيماوي، وقع خلال ساعات حوالي 1400 ضحية، كان أكثر من ربعهم نساء وأطفالا. وكانوا جميعا نائمين في بيوتهم فماتوا في مضاجعهم. وكان الفارق الزمني بين القصف وبدء الأعراض نحو نصف دقيقة. ولذلك، لم يتمكن المصابون، في حالات عديدة، من التحرّك أو الهرب، وانهاروا فور ظهور مختلف الأعراض الكيماوية المعروفة طبياً من إغماء وغثيان وتشنج واختناق وعماء وشلل، فضلا عن أنه لم يسلم أحد من الكوادر الطبية والإسعافية من بعض درجات الإصابة، بسبب عدم توفر أقنعة أو بزّات واقية في أثناء قيامهم بعمليات الإخلاء والإسعاف. أما أطفال الغوطتين فكانت صور المصابين منهم أشد صدمة، فيما كانت معاناة النساء المصابات مضاعفة، نظراً لضيق الأماكن وعدم وجود ردهات خاصةٍ، تتيح خلع ثياب النساء قبل غسلهن من آثار المواد السامة.
وبسبب نقل الشهداء والمصابين إلى مختلف النقاط الطبية في بلدات الغوطة ومدنها، تعذّر على كثيرين من الأهالي إيجاد أبنائهم وذويهم بالسرعة المطلوبة، لأنه جرى إخراجهم بثياب نومهم من غير هوياتٍ شخصيةٍ، أو أي شيء يدل على شخصيتهم. ومع الحر الشديد لشهر أغسطس/ آب، وعدم وجود كهرباء وثلاجات لحفظ الجثامين، كان هناك اضطرار في حالاتٍ عديدة لدفن الشهداء المجهولين، قبل تعرف ذويهم إليهم ووداعهم.
وعلى الرغم من كل الادعاءات ومحاولات التهرّب، كانت مسؤولية النظام شديدة الوضوح
لكن تلك البيانات والتحركات كلها، والتي حبس العالم أنفاسه على وقع ضجيجها وتوقع ضرباتها، لم تتجاوز بدورها الإعلانات الصحفية، وانتهت إلى مبادرةٍ تقدّمت بها حكومة روسيا الاتحادية، من أجل تسليم الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها تحت الرقابة الدولية، لتجنيب النظام السوري تلك الضربات، وسارع وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، إلى إعلان قبول سورية تلك المبادرة.
وفق ذلك، تم، من جهةٍ أولى، تسلم سلاح الجريمة والسكوت عنها، ومسحت كل الخطوط الحمراء المتعلقة بها، انطلاقا من تنسيق أميركي روسي حولها، وسلم النظام السوري المجرم خزانته من السلاح الكيماوي إلى مندوبي لجنة الأمم المتحدة التي قبلت ذلك دفعات متتالية، على الرغم من الشكوك المرافقة. وامتد السكوت عن الجريمة إلى السكوت عن المجرم وجرائمه اللاحقة، حيث لم يعد يخلو يوم لاحق من أخبار القصف الذي تصبه طائرات النظام وحليفه الروسي على مدن وبلدات سورية، والذي تدمر قذائفه وبراميلة المتفجرة العمران والبيئة، كما تصيب أعداداً متزايدة من السكان والمدنيين الذين صارت الفظائع التي تودي بهم خبراً معتادا في كل يوم.
استمر السكوت عن الجريمة السورية، وصار سياسةً رسميةً دولية، كرّسها التنسيق اللاحق والمستمر بين الراعيين، الأميركي والروسي، للملف السوري، وهما يتوزعان الأدوار في تغطية الجريمة مجدداً، تحت ستار محاربة الإرهاب. حيث يقصف الأميركان عن بعد، وفي الشمال ضد داعش، ودعماً لمشروع كردي، بينما يقصف الروس دعما للنظام، عن قرب ومن قواعد مباشرة لهم في سورية ، ثم في إيران، ولا بأس أن يستمر ذلك بموازاة مفاوضاتٍ لا تكاد تنعقد حتى تنفض بدون طائل.
وبدلا من سوق الرئيس السوري المجرم إلى محكمة الجنايات الدولية، كما أمثاله من مجرمي العصر في البوسنة ورواندا، ها هو السكوت عن جرائمه السابقة والمستمرة يتحول إلى إعادة تأهيل له ولنظامه، فيصبح حليفاً ضرورياً لمحاربة الإرهاب، في ظل ما صار أشبه بحالة طوارئ دولية، تتعطل فيها القيم، وتتوارى الشرعة الدولية وحقوق الإنسان.