في الطريق إلى القدس

06 اغسطس 2019
(من جدار الاحتلال الإسرائيلي حول القدس)
+ الخط -

لم أرها منذ ربع قرن. آخر زيارةٍ كانت في صيف 1984، لنشر قصائد عند علي الخليلي، بمجلة الفجر الأدبي. كان مقر المجلة قريباً من "باب دمشق"، أو "باب العمود" حالياً. نزلت من عند علي، وتجوّلت طويلاً في الشوارع، مارّاً على المكتبات النادرة للتزوّد بالكتب. أذكر من تلك الزيارة، ابتياعي لعدد محترم من المجلات القديمة من كشك "دعنا" الشهير، هناك قريباً من قلب المدينة. وأذكر أيضاً زيارتي لكنيسة القيامة وباحة مسجد الصخرة بقبته الذهب الجهيرة. والآن جاء الوقت لزيارة القدس، ولكنْ لسببٍ جد مختلف: فأخي مريض بالسرطان، وحصل على تحويلة للعلاج في "مستشفى مار يوسف" في الشيخ جرّاح. ولا بد له من مرافق تشترط "إسرائيل"، لـ"دواع أمنية"، أن يكون فوق سن الخامسة والأربعين.

حقبنا أمتعتنا البسيطة، حريصين على التصاريح اللازمة والتقرير الطبي، وتوجّهنا صباحاً إلى معبر "إيرز". قطعنا الطريق من خان يونس إلى المعبر في حوالي الساعة، ثم وقفنا هناك ننتظر تخليص الإجراءات على حاجز أمن بدائي يديره ملتحون من شرطة حماس. سجّلوا أسماءنا وأرقام هوياتنا والهدف من "دخول إسرائيل"، ثم جلسنا تحت عريشة مرتجلة بالقرب من الأرض الحرام التي تفصل غزة عن حدودهم. لم يطل انتظارنا. في التاسعة تقريباً، سُمح لنا بالتحرّك، فمشينا على الأقدام، مسافة ستمائة متر أو يزيد، قبل وصولنا للمعبر. كل شيء من حولنا يدلّ على تلك الحرب الرهيبة: كل شيء مدمَّر. ركام بيوت عربية قريبة. وأما الطبيعة، فمحلوقة على الصفر أو صلعاء تماماً. لا شجر ولا بشر ولا حتى عصافير في بقعة الأرض التي كانت كالجنة.

وأنا أغذ السير مراقَباً من كاميرات الأبراج التي تمسح المكان على مدار الدقيقة والثانية، داهمني الإحساس بأنني "أسير حرب" يمشي كما يمشي الأسير. المهم: دخلنا إلى أول "المعبر" ومررنا عن حواجز باطون عملاقة وقبيحة، قبل دخولنا في ممرّات مسيّجة بأسلاك شائكة ومبلطة بالإسمنت، ومن هناك لففنا إلى ممرّ آخر، أشبه ما يكون بممرّات السجن.

واجهنا بعض الحمّالين الغزيين العاملين في المكان. حملوا عنا متاعنا القليل مقابل عشرة شواكل، ثم انتظرنا مع المنتظرين (وكلهم من المرضى)، قبل أن يُفتح باب حديدي ثقيل، فنعبر. كان أحد الحمّالين يتكلم مع "موظفة أمن" إسرائيلية من "مخشير" مصنوع خصيصاً كجزء من الباب إياه. وهو الأمر الذي تكرّر كثيراً، في ما بعد، حتى انتبهت إلى أنّ العاملين العرب هاهنا، لا يحتكّون مباشرة بالعاملين الإسرائيليين، بل يُكتفى بالكلام من وراء حجب إسمنتية أو زجاجية أو حديدية، عن طريق "المخشيرات" المبثوثة في كل ركن من الأركان.
أخيراً دخلنا إلى رواقٍ محاط بالأسلاك الشائكة مستطيلٍ بجدران عالية، بغية تفتيش أمتعتنا. وأمرنا العمّال الغزيّون بفتح الشنط، والتخلص من "الدُّقَّة والزعتر" بالخصوص، لأن دخولهما إلى "أراضي إسرائيل" ممنوع.

_ ليش؟ سألت العامل مندهشاً.
_ لأنها مطحونة، وأي شيء له شكل "المسحوق" يُحرّم دخوله.
أخرج أخي نصف كيلوغرام من الزعتر، ورماه في سلة المهملات آسِفاً.
_ هل أُلقي أيضاً بالخيار والبندورة؟
_ لا، هذان مسموحان.

تجمعنا حوالي العشرين مريضاً ومرافقاً، وبدأنا ندخل من باب ضيّق إلى عنابر مجهولة، هي بالفعل أشبه ما تكون بأقسام العزل في سجونهم.
لم يبارحني ذلك الإحساس اللعين، وكأننا وقعنا في مصيدة.

أية إجراءات أمن مبالغ فيها! تمشي حسب السهم وإن تلكأت قليلاً، يأتيك الصوت، ولا تعرف من أين بالضبط، ليستعجلك. إنه صوت خارج من فتحات في الجدران، وغالباً ما يكون لأنثى.
على حاجز ثان، كان معنا رجل كهل مقعد على كرسيّه المتحرّك، مصاب بالقلب، لا يستطيع الوقوف والمشي، فأمرنا صوتُ المجندة بمحاولة إيقافه، ورفع يديه كي تراه. فعلنا وساعدنا الرجل بشق الأنفس، إلى أن جاءت رحمتها واكتفت بنصف وقفة، فسُمح له بالمرور على الكرسي المتحرك جالساً لا واقفاً كما يقتضي أمنهم.

بدأت عصبيّتي، ولاحظ أخي فحذّرني من أية كلمة زائدة ستكون عواقبها ببساطة، منعنا من الوصول لغايتنا ورجوعنا على أعقابنا.
_ لا تخف، فلكل مقام مقال.
_ دير بالك، مش ناقصين.

دخلنا من غرفة زجاجية إلى غرفة زجاجية ثانية فثالثة فرابعة، ولا بد من الوقوف في كل غرفة ورفع الأيدي عالياً، بعد أن نكون نزعنا كل ما له علاقة بالمعدن من متعلّقاتنا الشخصية لئلا تزنّ الماكنة، فيبدأ التفتيش من الأول. وقفت في آخر غرفة، حيث جهاز المسح الإشعاعي، وجاءتني الأوامر المجهولة برفع اليدين عن آخرهما. احترت من أين يأتي الصوت، ثم بلفتة لا إرادية، رأيتهم هناك: في الواجهة المقابلة، في الطابق الأعلى، يأمرونني من وراء نوافذ مغلقة ومواربة. كانوا ستة، خمسة موظفي إدارة وأمن، من جنود ومجندات إشكناز وفلاشا، وسادسهم رجل أمن شاب، له سحنة وجسم قبضاي: يحمل بندقيته السوداء الكبيرة، ويُسلّطها علينا، هنا، تحت، في هذه الغرف الصغيرة الإلكترونية الفتح والغلق.

_ ماذا في جيب قميصك العليا؟
_ الهوية وشواكل ورقية من فئة المئة.
_ أخرجهم؟
_ طيب. ورآهم من عليائه، فسمح لي بالخروج من الغرفة والجلوس على كرسي في انتظار تفتيش الأمتعة للمرة الثالثة والأخيرة.

تجمعنا مرة أخرى، وذهبت أمتعتنا فوضعت في طشوت بلاستيكية خضراء كبيرة الحجم، ومرّت على السير الكهربائي، لتقف أخيراً فوق طاولات، تقوم عليها مجندات للتفتيش والتدقيق.
عبرنا هذه المرحلة، وجلسنا من جديد في انتظار الإجراء التالي..

طال انتظارنا هذه المرة، وشعرت برغبة ماسة في التدخين، لكن ملصقاتهم الكثيرة المتوزعة على كل حائط زجاج من حولي، قمعتني. طلبتُ مرحاضاً فجاء عامل غزّي ودلّني على التواليت. خرجت منه، بعدما شربت الكثير من الماء، وهناك في الفسحة الفضاء، وجدت منفضة تدخين كبيرة، فأشعلت سيجارة ودخنتها بنهم.

المعبر هنا، ليس كما عهدته قبل ثمانية عشر عاماً (آخر مرة اجتزته فيها، كانت أيام العمل في الداخل المحتل)، بل هو معبر دولي بين دولتين عدوتين. معبر عملاق مجهّز بأحدث الأجهزة، قيل لي إنه تم إنشاؤه عام 2006، ليكون نقطة عبور دولية تفصل غزة عن "إسرائيل" إلى الأبد.

بعد ساعات، جاءت الموظفة المختصة بأهل غزة وباشرت عملها من وراء مقصورة زجاجية. تقف أمامها، في الباحة، ثم تنادي اسمك، فتدخل من باب لا يفتح إلا بإشارة إلكترونية منها، فتسألك بعض الأسئلة الروتينية، وتسجّل معلومات عنك، توطئة لمنحك تصريح العبور المطلوب.

دخلت وخرجت لأعود إلى الكرسي، منتظراً مع المنتظرين من أطفال وشيوخ ونساء وشباب أغلبهم مصاب بأمراض السرطان. ساءتني كثرة رنين الهواتف النقالة لجماعتي. بين الفينة والفينة يرنّ موبايل أحدهم أو إحداهن، فيخرج عليك صوت دعاء أشبه بالزعيق. إزعاج صُراح، ومع ذلك لا أحد يحسّ أو يذوق.

أخيراً نوديَ عليّ فبدأت بعبور آخر بوابة، ثم أعادوني للكرسي، لأسباب ما، عرفتها حين جاء رجل "الشين بيت"، ونادى عليّ أنا تحديداً لأوقّع على ورقة، تُلزمني بالعودة مع أخي، وعدم الخروج من المستشفى لأي سبب كان، أو التسلل لرام الله، أو دخول القدس الغربية. قلت له إنني موظف وربما أذهب لرام الله للالتحاق بوظيفتي هناك، فحذرني من ذلك، وزاد: لن يدخل أخوك إلى غزة، بعد العلاج، إذا لم تعد معه.

وقّعت على الورقة، وطارت كل أحلامي السابقة بالنزول إلى رام الله ومن هناك إلى عمّان، فدولة أوروبية ثم النرويج أو السويد.
طارت كل أحلام الهجرة!

ركبنا سيارة الأجرة الصغيرة حمولة أربعة ركاب. كان السائق من بدو بير السبع، والسيارة جديدة بيضاء اللون. لم يتنازل عن مبلغ 300 شيكل، مقابل ساعة من السفر لا غير. استغلال مكشوف، إنما ما في اليد حيلة. سارت السيارة ببطء ونعومة في البداية ثم أسرعت حين أخذنا الطريق العام. مساحات هائلة من الخضرة، مرتبة ومهذبة، كأنما صنعتها يد فنان لا مزارِع. هدوء وسلام يرينان على الطبيعة، عكس ما تحظى به طبيعة غزة من تنكيل وقسوة لا تُضاهى.

أخذ أحدُ الركاب يسأل السائق عن أسماء القرى والأماكن التي نمرّ بها. تلعثم السائق وشرع يقرأ أسماء عبرية، ما أثارني وجعلني أتدخّل. فأنا أعرف المنطقة شبراً شبراً، وأعرف أسماءها العربية. مررنا بعدة قرى أزيل اسمها العربي وأُحلّ مكانه اسم عبري. نبّهتهم: هذه القسطينة.. هذه حمامة.. هذه أسدود، هذه بيت درّاس، هذه عسقلان، إلخ. أما نجد قريتي، فهي الآن "محمية طبيعية" وبُنيت فوق أراضيها مستوطنتان كبيرتان، هما "سيدوروت" و"أورهنير".

انزلقت السيارة بنعومة على إسفلت متقن الصنع. أخيراً عبرنا جسر المجدل، وبعض البلدات، ثم انحرفنا شرقاً باتجاه جبال القدس. غادرنا السهل الساحلي وبدأت طبيعة المكان تتحوّل من السهل الرملي المنبسط كراحة اليد، إلى تضاريس الجبال بألوانها الصخرية المتعددة. جلال ورهبة تبثّهما الطبيعة فيك، خصوصاً إذا كنت من سكان الساحل ولم تر في حياتك تضاريس الجبال الوعرة.

أنظر مشدوهاً ومفتوناً بتنوّع جغرافية فلسطين. جبال كبيرة خضراء مرشومة بأشجار الصنوبر العالية وبأنواع من شجر التفاح وسواها.
يقول السائق إنّ أشجار الصنوبر زُرعت على زمن الحكم الأردني.
لقد بلغت النشوة! أجل، فمع هذا الضحى الصافي، ومع هذا النور السائل اللطيف، ومع عليل الجبال وهوائها البارد المصفّى: بلغتُ النشوة. أين هذا الجوّ من جوّ غزة الملوّث باليورانيوم وعوادم البنزين المصري الرديء؟

هنا لا رائحة حتى لعوادم السيارات. فـ"بنزينهم" نقيّ وكمية العادم الخارج من السيارة مراقَبة بصرامة لئلا تُلوّث المحيط. فضلاً عن أن السيارات هنا لا تعمل على الخط بعد اشتغالها عشر سنوات. إنها تُحال على المعاش في سن العاشرة. ولن أدخل في المقارنات بيننا وبين مجتمع الاحتلال، فالمقارنات ظالمة، وبخاصة بين عالمنا المحاصر وعالم المستعمِر.

مررنا على قرية دير ياسين، ورأينا بعض بقايا بيوتها العربية واضحة من زاوية الطريق. أتذكّر الآن مقولة بن غوريون: "لولا مذبحة دير ياسين ما قامت إسرائيل".

لقد فظّعوا بأهلها [يوم 9 نيسان (إبريل)] عن قصد لترويع الأهالي. وكان لهم ما أرادوا، فنزح وهرب أغلب الأهالي في غالب المدن والقرى العربية. سكان عزّل أمام آلة حربية صماء لا تعرف الرحمة. حاصروا كل قرية من ثلاث جهات وتركوا الرابعة مفتوحة كي يهرب الأهالي، فهم يريدون الأرض لا البشر.

ها هي معالم القدس تظهر في الأفق. مستوطنات كثيفة على رؤوس الجبال. جبروت إنشائي، طوّع الطبيعة الصخرية القاسية، وجعلها رهن بنان المهندسين الكولونياليين.

مررنا على مقبرة يهودية لحظة دفن أحدهم. متدينون بقلانس سوداء وشبان وصبية، وربما حتى نساء، فلم أتأكّد. هو الموت له الملامح نفسها في كل زمان ومكان.

ها هي عتبات القدس. ثمة مترو يجري إنشاؤه هنا. أدوات بناء من قضبان حديدية وإسمنت وخلافه. عبر بنا السائق، وشدّد على ضرورة ربط الأحزمة، أكثر من مرة. ضحكتُ: منذ أوسلو نسينا هذه العادة في غزة. منذ جاء إلينا إخوتنا لم نربط حزاماً. كانت هذه عادة متأصلة أيام الاحتلال. تدرج السيارة على إسفلتات نظيفة برّاقة مستوية، لا مطبّات فيها ولا خدوش.

جبال، جبال، ومن جبل إلى نفق، ومن نفق إلى إشارة ضوئية. هنا يقع المقرّ المركزي لـ"شرطة إسرائيل القطرية". وغير بعيد مقر "رئاسة مجلس الوزراء" ومقر "الكنيست".
_ الحمد لله على السلامة.
فاجأنا السائق، حين انعطف يميناً في شارع راغب النشاشيبي، وأوقف السيارة.
_ هوذا مستشفى مار يوسف، وصلنا بلا تأخير.
_ يعطيك العافية.

نزلنا، وعرفت في ما بعد، أنّ هذا الطريق العام ("طريق رقم واحد") لا يبعد سوى أمتار عن طريق آخر مواز له، كان الحدّ الفاصل بين القدس بجزأيها الشرقي والغربي. وأنه، أثناء حرب حزيران/ يونيو 1967، كانت هنا الدُّشم ومعدّات الجيش الأردني، إضافة بالطبع إلى المقاومين. تاريخ أضاءه لي الرفيق إلياس، السجين السابق من الجبهة الشعبية، والذي أمضى في سجون الاحتلال ثمانية أعوام من عمره. ورجل الأمن في المستشفى حالياً.

رفيق لطيف وواع، ودّع قناعاته الثورية، كمعظمنا، وصار يُركّز في أحاديثه على ضرورة النقد الاجتماعي وضرورة التعامل بعقلانية صارمة بدل العواطف، "فالصراع الضاري يتطلّب عقلاً ومنطقاً لا عواطف مهوشة".

دخلنا إلى الطابق الأول من المشفى، وسجّلنا أسماءنا عند موظفة، في انتظار استكمال الإجراءات الروتينية قبل العرض على الطبيب المختصّ. لفتت نظري نظافة ودقة الترتيب في المشفى. هدوء يُخيّم على المكان، والإجراءات تتمّ بسلاسة.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون