في الخدمة العسكرية

15 مايو 2019
+ الخط -
كانت الصورة التي رأيتُ فيها ما رأيت من أحداث غريبة ومؤسية، فيها الكثير من الإساءة إلى كل من فكّر الالتحاق بالخدمة العسكرية، وتتجاوز في حدودها المرحلة الجديدة من عمري، بعد نيلي شهادة الدراسة الثانوية العامّة، وأتبعتها بعامين آخرين للالتحاق بدراسة كلية الحقوق في جامعة بيروت العربية، وانتقالي إلى الصف الثالث فيها، وكانت في وقتها الحرب الأهلية اللبنانية على أشدّها، والوضع الأمني مزرياً للغاية، وكان يعيشه الأهالي، بكل طوائفهم، بصورةٍ بغيضة، ناهيك بالانقسامات الداخلية ودويّ الانفجارات التي تقع هنا وهناك مخلفةً آلاف القتلى، فضلاً عن الدمار الكبير الذي حل بالمدينة، وأزيز الرصاص الذي كان يُسمع في كل مكان دون هوادة، أثناء تقديم الامتحانات في صيف عام 1986، ما دفع بعدد كبير من الطلاب المسجلين في جامعة بيروت الذهاب إلى دمشق، والعودة في اليوم التالي، لإكمال امتحاناتهم الدراسية بدلاً من الإقامة في بيروت، حفاظاً على أرواحهم المهدّدة بمصير مجهول، ورغم ذلك فإنَّ أغلب الطلبة تراهم ملتزمين في خوض امتحاناتهم السنوية برعبٍ وخوفٍ شديدين!.

وفي ما بعد هذه المرحلة، فضّلت وقف دراستي الجامعية والالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، وهذا ما كان مرسوماً في ذاكرتي، وتفضيل ذلك بهدف الخلاص منها وتجاوز فترة مهمّة كانت ستقف حجر عثرة في طريق مستقبلي، وفي إكمال دراستي والسفر إلى بلاد العم سام، حلم الكثير من الشباب الطامح لمستقبل مشرق.

وفي يوم خميس مع نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1989 قررت التوجّه إلى شُعبة التجنيد للالتحاق بصفوف جيشنا الباسل، حامي الحمى، أسوةً بزملائي وأصدقائي ممن سبقوني وخاضوا التجربة الأصعب والأهم في حياتهم، فضلاً عن أصدقاء جدد كنت قد رأيتهم واقفين في طابور طويل أمام دائرة التجنيد التي تثير، لمجرد رؤيتها، الفزع في قلوب الناس المارّة العاديين بسبب صورتها السيئة المرسومة في أذهان أبناء المدينة، وغيرهم ممن يضطرون مكرهين العودة إليها لغرض ما!.

الأصدقاء الجدد الذين التقيت بهم، الواقفين أمام مبناها العتيق، يثير الحِنق ويضفي عليها طابع الحقد الدفين المرسوم في عقول أبنائها، ناهيك بتعامل العسكريين العاملين والمدنيين الموظفين على ملاكها للمراجعين، المعاملة الخشنة، وفيها من الإساءة ما يكفي، ووجوههم المكفهرّة التي تجعلك تهرب بعيداً فور الانتهاء من غرضك الذي قدمت من أجله!.


هؤلاء الأصدقاء الذين ترى في عيونهم لعنة الساعة التي فكروا فيها، لمجرد التفكير، الالتحاق في صفوف الخدمة العسكرية؛ لما فيها من إذلال واهانة للنفس، ناهيك عن معاملة الضبّاط وصف الضبّاط وحتى المجنّدين من رتب متدنية المعاملة التي لا تليق بالإنسان، بل يصبّون جامَ غضبهم بوجه المدنيين أضف إلى العناصر الجدد الملتحقين بالخدمة العسكرية، والانضواء تحت لواء صفوف الجيش العرمرم، المعروف عنه بجيش أبو "شحاطة"، والسبب هو سوء المعاملة، وإذلال العسكريين الأغرار، ورداءة وقدم اللباس العسكري الذي يُسلم لهم، وكثير غيره من اللوازم التي أكل الزمان عليها وشرب، من بطانية ووسادة، وعلاوة عن البوط العسكري الذي يُسلّم على الأغلب للمجنّدين بقياسات تفوق نمر أرجلهم، وبالكاد أنه يصلح للخدمة، ما يضطر الكثير منهم إلى شراء بديل عنه، حتى يُناسب مقاس أقدامهم، ورغم ذلك يضطرون للمحافظة عليه ليصار إلى تسليمه مع نهاية الخدمة، وغيره من احتياجات ضرورية، وهذا ما يمكن أن يؤخذ على العسكري المجنّد الذي ترك ذويه للالتحاق بخدمة وطنه، والذود عنه إلاّ أنه أول ما يفاجأ به، مع بدء مرحلة التحاقه بالخدمة العسكرية، قبل فرزه بصورة نهائية إلى الوحدة العسكرية، مروره بطرق متعرّجة فيها من مرارة العيش والذل والمعاناة الكثير، ما يعني أنه سيلعن الساعة التي ولد فيها وفكّر، لمجرّد التفكير، الالتحاق بخدمة جيش بلده، بل خدمة الضبّاط وصف الضبّاط والمساعدين وغيرهم من العاملين في الجيش، وان كانوا من المهمّشين!

في الصورة الأولى للالتحاق بمركز التجمّع العسكري، كانت بداية الانطلاقة في مدينة "النَبْك" مركز التدريب الأول الذي يبعد عن دمشق 75 كيلو متراً، وبعد نحو أسبوع صدرت قوائم الفرز إلى كلية الدفاع الجوي بمدينة حمص، وقضاء ثلاثة أيام داخل الكلية قبل استصدار قرار الفرز بصيغته النهائية.

وفي حقيبتي، المعلّقة على كتفي، كنتُ أحمل بعض لوازمي ومتعلّقاتي الخاصة، ومن بينها قطعتين من صابون الغار الحلبي المعروف، وإذا بأحد الضبّاط يومئ لي بالتقدّم نحوه. ألحّ عليَّ بفتحها وأخذ يفتش ما في داخلها، ومصادرة محتوياتها، ومن ضمنها قطعتي الصابون، التي أصرَّت والدتي على حملهما معي لاستعمالها في غسيل جسمي المتهالك بعد تدريب يوم مضن. هكذا كانت تظن، غير عارفة أنَّ ضبّاط الأسد يترصّدون المجنّدين "بتشليحهم" ما يقومون بجلبه من أهليهم، بدلاً من مساعدتهم، والوقوف معهم في معاناتهم، والتخفيف عنهم.. وهذا ليس بغريب على أمثال هؤلاء الضبّاط وصف الضبّاط ضعاف النفوس، الذين يسرقون علانية المجنّدين بدلاً من مساعدتهم في أيامهم المثقلة بالحزن والكآبة، وان كانت تلك مجرد أشياء شخصية لا تذكر، وبعد أن أخذ كل ما في داخل حقيبتي، وأنا العسكري الغرّ، ولم يكن بمقدوري فعل أيّ شيء سوى الهرب من القطعة العسكرية والذهاب إلى بيت الأهل، حيث يقيمون في الرَّقة، وبقيت هناك حوالي عشرة أيام، وعدت مرةً ثانية، وعلى اثر ذلك تم إيداعي السجن بسبب غيابي غير المبرّر، ومن حسن الحظ أنه تم الإعلان عن فرز جديد صادر عن القيادة العامة، وكان اسمي، لحسن الحظ، من بين الأسماء المفرزين إلى مكان آخر، وعلى ضوء ذلك أطلق سراحي، بعد أن أقمت في السجن، ولأوّل مرّة، في حياتي ليوم واحد على أن ألتحق بالوحدة العسكرية الجديدة خلال ثلاثة أيام من تاريخه.

بعد انقضاء الأيام الثلاثة، التحقت بالوحدة العسكرية الجديدة، وهي قريبة من مدينة الكسوة التي تبعد عن دمشق العاصمة نحو ثلاثين دقيقة بالميكروباص. في تلك الوحدة تعرّفت على صديق محترم، وكان اسمه خالد علاّوي، من أهالي مدينة منْبِج، وهو عسكري على أهبة التسريح من الخدمة.

شاب وسيم. خلوق، ذو طباع تختلف عن بقية الشباب المجنّدين الذي سبق وان التقيت بهم. بسيط في تعامله، وصادق في حديثه، ومن المهتمين بقراءة الصحف والكتابة، وهذا ما جعلني أشعر بالارتياح معه.

كانت معاملته لي فيها الكثير من الود. تعارفنا على بعض، وحاول جاهداً أن يُعرّفني بقائده العسكري ربما أستفيد من خدمته الطويلة في المكان الذي يخدم فيه. مكان مريح ويمكن أن يتاح لي فيه خلال فترة خدمتي العسكرية المحددة الاستفادة منه ما يمكن أن ينعكس ذلك على عشقي للصحافة التي أوليها اهتماماً مبالغاً فيه.

وبعد جهد ومتابعة حثيثة، باءت محاولاته بالفشل، لم يتمكن صديقي اللطيف، بالتعاون مع معلمه المباشر من إصدار قرار فرزي إلى المكان الذي يشغله في الخدمة العسكرية. بعد أيام صدرت قوائم الفرز الجديدة للمجنّدين الجدد الملتحقين باللواء، وكان اسمي من بين تلك الأسماء، ما يعني أن خالد فشل في محاولاته بفرزي إلى حيث المكان الذي يخدم فيه، رغم وعود معلمه له، وحلفانه بأغلظ الأيمان على أنه حاول ولكن لم يقدر على فعل شيء، مبرراً أن إجراءات الفرز تصدر من جهات وصائية عليا، وهو الضابط المسؤول في إدارة اللواء العسكري الذي يشغل فيه مكانة متميّزة، وبرأيي، لو أراد ورغب فانه قادر، بلا شك، على أن يحقّق رغبتي بفرزي إلى المكان الذي يقوم عليه خالد، بعيداً عن السرايا والكتائب العسكرية التي يتطلّب العمل فيها جهداً مضاعفاً!.

أمضيت يومين لدى صديقي خالد، ولم يقصّر في واجباته نحوي، بل أفاض في كرمه المعروف عنه، وبعدها التحقت بالقطعة العسكرية التي تتبع الوحدة الرئيسية، وعلمت منه أن المكان الجديد الذي تم فرزي له قريب جداً من هنا. وقبل فترة الغداء ذهبت مع المجنّدين المكلفين بإحضار الطعام، وركبت بسيارة "الزيل" الروسية المنشأ، المعنية بتوصيل الطعام إلى السرايا والكتائب التي تتبع اللواء.. وهناك كانت العيون تنظر إليَّ، أنا المجنّد المدني الجديد الذي حلّ على السرية، لأُضاف إلى العناصر الذين سبقوني من نفس دورتي العسكرية، والتقيت في حينها بالضبّاط والمجنّدين، وقبلي بيومين كان قد وصل عدد آخر من المجندين الجدد، فأصبح عدد المجندين المفرزين إلى السرية ثمانية أفراد، وألزمنا الإقامة في خيمة تفتقد لكل شيء ما اضطررنا إلى الإقامة في الغرف الطينية التي تأوي العسكريين الذي يسبقونا في الخدمة.

المكان الجديد يضمّ عدداً من الغرف المبنية من الطين الغشيم وتغطي سقفها خيمة قماشية، وبعضها من الاسمنت، وغرفة خشبية قديمة يجتمع فيها العساكر المتواجدون في السرّية مع كل صباح بعد الانتهاء من درس الرياضة الصباحي، مخصصة للاجتماعات ولإعطاء حصص في الدروس العسكرية والوطنية، ويديرها الضبّاط المناوبون على مضض!

طبيعي نحن المجنّدون الجدد مطلوب منا خدمة المجنّدين الذي يسبقونا في الخدمة، وإن كانوا أدنى منا رُتبةً. هذه هي العادة التي درَج عليها النظام، ولا يوجد أي اعتبار للشهادة الدراسية، كل ما هنالك أنَّه يؤخذ بالقدم العسكري، من حيث احترام الرتبة والمكانة. الشهادة العلمية آخر ما يُعترف بها في نظام الأسد، فضلاً، إذا كنت من مجنّدي المحافظات التي تتبع المدن أو القرى القريبة من عظام رقبته، والموالين له، فإنك ستلقى، بالتأكيد، المعاملة الحسنة، وغير ذلك فإنَّ مصيرك سيكون مجهولاً، أو أنك تضطر إلى دفع المعلوم حتى تحترم بطريقتهم، وحينذاك سيهتمون بك أيّما اهتمام بعيداً عن شهادتك وعلمك ومكانتك.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.