في الاشتباك والاعتزال

17 سبتمبر 2015
يصعب أن تقنع مثلي بالاعتزال (مواقع التواصل)
+ الخط -
كان ذلك، منذ نحو عامين ونصف، قبل انقلاب 3 يوليو يقيناً، وكان في محادثة على "فيسبوك"، أو ربما كانت مكالمة هاتفية، وجدته يسألني: مالك مختفياً؟ ثم قال قولته التي ستطاردني ـ فيما يبدو- ما بقي لي من عمري: "أحسبها استراحة محارب، ثم تعود بعدها إلى الاشتباك".


يصعب أن تقنع مثلي بالاعتزال. وأمثالي كثيرون من الشباب، وممن هم على عتبات الكهولة، من مواليد أواسط السبعينيات، وحتى أواخر الثمانينيات، وأخص بالذكر هؤلاء، لأنهم جيلي الذي خبرته من ناحية، ولأن الإحباط صديقهم الجديد دون غيرهم، فأما الأكبر منهم فتربى عليه صغيراً، وأما الأحدث فعصيون لا يزالون على الانهزام أمامه.

غير أن روح الاعتزال غزتنا، يوم صار الاشتباك نوعاً من العبث باهظ الثمن، لا هو سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، كما كانت المرأة تصف زوجها في حديث أم زرع، كلحم جزور غث على رأس جبل وعر، والمعنى أن الوصول لرضاه لا هو سهل ولا هو مفيد، تماماً كأي محاولة "للاشتباك" مع المجال العام في مصر ما بعد الثلاثين من يونيو، أو بالأحرى ما بعد المذبحة!

أرى أن المشكلة يعاني منها صنفان من الشباب، صنف شباب يناير، الذين وضعوا فيها أملهم، وضحوا من أجلها بزهرة عمرهم، ودماء صحبهم، وأمانهم الشخصي واستقرارهم الوظيفي والعائلي، وبعضهم ضحى بحريته، وبعض وجد نفسه مضطراً إلى الخروج من وطنه، ليتجنب مصير بعض آخر ابتلي بالحبس، وهذا الصنف على الرغم من مأساته يعتبر الصنف الأقل معاناة، لأن الصنف الآخر هو ناشطو ما قبل يناير، أولئك الذين كانوا يحاولون في طريق التغيير على مدى نحو عقد ونصف سبقا الثورة، ثم كانوا طليعتها بطبيعة الحال، وعانى غالبيتهم الإقصاء والتشويه داخل جماعته واتجاهه الفكري جراء إيمانه بوجوب التوافق، ورفضه الاستقطاب "الإسلامي/ العلماني"، في مقابل معركة "الحرية/ الاستبداد"، وكانت نهاية المعركة في صالح شيوخ الاتجاه المحافظ من كل الاتجاهات، الذين أفلحت الدولة القديمة في استعمالهم لسحق شباب التغيير الثوري، ثم انفردت بهم فسحقتهم هم الآخرين جزاء سنمار، أو "علقة" مكافأة "آخر خدمة الغز!!"

بدأ هذا الصنف بعد انقلاب يوليو فصلاً جديداً من المعاناة لم يختبره من قبل، إنه انسداد المجال العام، والوصول لآخر خط النضال السياسي والاجتماعي، واختبار اضطهاد الجميع، وتحمل المسؤولية عن كل الأخطاء، إنه الفصل المأسوي المميز لما بعد الثورات، التي اشتهرت في التاريخ، أنها "تأكل أبناءها".

إن القارئ لأعمال نجيب محفوظ الذي شهد صباه وشبابه ثورتين مكتملتين، بخلاف محاولات أخرى لم يكتب لها الاكتمال، ودون شهاداته في أعماله بصدق وتجرد نادرين، أقول، إن قارئه يدرك جيداً ما أقصده. إنها مأساة "المنتمي للثورة" في زمان "المتسللين إليها"، وثورتنا قد فشلت، ولذا فإن هذا الجيل يعاني لا المتسللين وحسب، ولكن من "اللا منتمين" أيضاً، إنهم أهل الثورة المضادة الناجحة بامتياز، الذين عادوا بقوة مدركين بحسم أعدائهم التاريخيين، قبل المحدثين.

مشكلة هذا الجيل، هي أنهم لا يجيدون شيئاً غير النضال في سبيل التغيير، لا يجيدون السياسة والتفاوض، ولا يجيدون فنون "الإصلاح من الداخل" سواء في أحزابهم وجماعاتهم، أو في هياكل الدولة ومؤسساتها، وهم بالطبع لا يجيدون الاعتزال، وتربية العيال، ولا التركيز في الوظائف والرضا بالزرع وتتبع أذناب البقر!

مشكلة هؤلاء لخصها المتنبي حين شكا الحمى، ورفض محاولات تشخيص الطبيب سببها: 
يقول لي الطبيب أكلت شيئاً ** وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد ** أضر بجسمه طول الجمام "الراحة"
تعود أن يغبر في السرايا ** ويدخل من قتام في قتام!
فأين غبار المعارك وقتامها اليوم؟
وأين الاشتباك الذي تعودوه من دهرهم؟؟

إنهم لا يحبون الاعتزال، ولا يجيدونه، ولكنهم لا يعرفون من أين يبدأون، ويخشون ألم الصعق الذي جربوه في كل مرة حاولوا فيها لمس البوابة المعدنية، حتى أنهكهم الصعق، والتزموا مكانهم داخل القفص، لا يهتمون أتظل البوابة مكهربة أم لا، فقد فقدوا في التجربة المتوالية ما يزهدهم في المحاولة من جديد.

(مصر)
دلالات
المساهمون