فينوس خوري غاتا

02 يونيو 2015
+ الخط -
صدر منذ فترة قصيرة ديوان شعر جديد للشاعرة اللبنانية فينوس خوري غاتا التي تكتب باللغة الفرنسية. ديوان "كتاب التوسلات" يدور حول موضوع كبير هو الموت. تصفه فينوس بأنه "كتاب حداد على رحيل الرجل الثاني في حياتي. الأوّل هو جان غاتا، الذي أحمل اسمه. قمت بترقيع حياتي، مثلما نُرقّع قماشًا ممزقًا، مع رجل طيب ومؤدَّب، أكبر سنًا مني، ولكنه أحبَّ ابنتي. وحين رحل، كان الأمر بمثابة رحيل أبٍ لها، وحتى بالنسبة لي كان بمثابة أبٍ أيضًا. وقد رحل قبل سنة. إنه كتابُ حداد وكتاب أمل في الآن نفسه. أخاطب فيه هذا الميّت، كما أخاطب الرجل الأوّل، الذي لم أنْسَهُ أبداً، وكان رجل حياتي، فقد أخرجني من لبنان وأخذني إلى فرنسا. يتداخل الرجلان الميتان في الكتاب، حتى إني لا أعرف إلى من أتوجَّهُ بالحديث. كلاهما ينظر عبر جدار، اثنين، ثلاثة، عمّا أصبحت عليه المرأة والابن والأشياء، كما لو أن الأموات يتعلّقون بأشيائهم أكثر مما يتعلقون بالأحياء. يتعلّقون بممحاتهم وأقلامهم الموضوعة على طاولة العمل ونظّاراتهم التي تركوها. وفي إحدى المرات، من شدّة هوسي، وضعتُ نظاراته التي تركها على طاولة نومه، لأرى كيف كان ينظرُ إلى الأشياء. كنت أريد أن أكون أنا الميّت الذي ينظُرُ إلى ما ترك من ورائه".

اقرأ أيضاً: انفعال مانع لأي نقاش

لكن حضور الرجلين الميتين في الديوان، لا يعني بحال من الأحوال انفصال الشاعرة عن جذورها اللبنانية التي كانت حاضرةً من خلال موضوع الحرب الأهلية اللبنانية، وبشكلّ خاصّ عن القنّاص. تلك الشخصية التي حضرت في أكثر من كتاب، شعراً وروايةً، عن الحرب التي لم تنسها خوري غاتا أبدًا، إذ تقول: "الجزء الثاني عن الحرب التي لم أنْسَها أبدًا، وهو كتاب ذكريات لبنانية عن الحرب التي عشتها. تذكّرت القنّاص الذي كان فوق أسطح المنازل، يطلق النار على كلّ من يتحرك. تذكّرت الأمهات اللواتي يطلبن من أبنائهن الدخول للبيت حين يبدأ القصف. وكذلك البحر المتوسط، والجثث التي كان يُعيدُها إلى اليابسة، وكانت منتفخة مثل البراميل. لا يمكنني نسيان صور الحرب هذه، رغم أنني لم أعايشها إلا قليلًا، إذ كنت هنا، في فرنسا، مع أبنائي. لكن كلّما فرضت هدنة، كنت أعود".
الصور الكثيرة الموجودة في الكتاب مستمدّة في جلّها من مشاهدات واقعية، حفرت في ذاكرة الشاعرة، فألهمتها القصائد. تقول في هذا الصدد :"كيف علمتُ بوجود هذه الآلام وهؤلاء الموتى؟ كنتُ أعثر على نعل رضيع مليئة بالدم في حديقة، وكنت أرى يدًا بشرية عالقة في شجرة، فكنت أعرف بحدوث انفجار وبقاء يد القتيل على الشجرة. تخيلتُ الأمر بالاستناد على آثار البشر، آثار أجساد القتلى. وبالنسبة لي كانت الأمّهات والبحر المتوسط شاهديْن عن هذه الحرب. وقد تطلب الأمر انتظار خمس وعشرين سنة قبل أن أكتب عنها".
ولئن بدا الشعر ممسكًا بفينوس خوري غاتا، إلا أنها لم تتردد في طرق أبواب أجناس أدبية أخرى، كالرواية والقصّة القصيرة وغيرها، كما لو أن الشعر والنثر يتعايشان داخلها بانسجام. إذ تقول إنها تبدأ "دائمًا عبر تدجين الموضوع. سواءٌ أتعلّق الأمر بوفاة زوجي أو شريكي الثاني أو منفاي في فرنسا. في ديواني "إلى أين تذهب الأشجار؟"، أتناول طفولتي في قرية بشرّي، شمال لبنان، أبدأ في تدجين الموضوع بواسطة الشعر. الشعر يَحومُ حول الموضوع، وآخذ بعض الخطوط الصغيرة، وحين أعرف الموضوع يسكنني، وأتصوّر أن بالإمكان أن أحكيه مائة في المائة، ثم أكتشف أنه لا يمكنني ذلك. الشعر يلامس الموضوع، لكن حين يتوجب علي الذهاب إلى كلّ الزوايا، فليس هناك سوى النثر. حين يسألني تلاميذ المدارس التي أشارك في نشاطاتها، عن الفرق بين الشعر والنثر، أقول الشعر هو كما لو أننا صعدنا قطارًا سريعًا، وبالكاد يمكننا رؤية أشياء من خلال النافذة: أثر شجرة، سقف بيت، شارع صغير، بينما النثر قطارٌ متثاقل، حيث يمكننا رؤية البيت مع السقف، والشارع والحوانيت. النثرُ يوجد في كلّ الأمكنة ويَحكي كلَّ شيء". مع ذلك يبقى للشعر مكانته الأقرب إلى نفسها، فقد بدأت فينوس به قبل النثر : "لدي هذه القصيدة الطويلة، تمتدّ لثلاث وعشرين صفحة. فيها أتحدّث عن الأخ الذي عاد بعد أن أُفرغ مستشفى الأمراض العقلية من مرضاه بسبب القصف الذي طاله، ولم يعثر على أحد في البيت. أنا أحكي أشياء حقيقية في الشعر". وتضيف أن الشعّر بالنسبة لها هو "الاحترام. إن سرعة السرد هي التي تصنع الشعر. الشعر سرديٌّ بالنسبة لي. إنه السرعة المجنونة، الخاطفة، والانفعال يساهم في ولادته. الشعر هو الانفعال القادر على تحطيم صخرة، هو بالنسبة لي كلمة ضدّ كلّ أنواع اليأس. لا يوجد أسىً يمكن أن يستعصي على الشعر. أكتبه حين أكون في ظرف نفسي سيء. أعرف أنه بدلًا من أن أشنق نفسي إلى شجرة، أكتب قصيدة".

اقرأ أيضاً: بحثاً عن الشرق الضائع

إلا أن الرواية عرفت طريقها إلى فينوس أيضًا، ويبدو أن ذلك تمّ من خلال حياتها الشخصية أيضًا، حيث تسرد بشكل أوضح قصّة تلك القصيدة، لكن في الرواية هذه المرّة : "كان لي أخ شاعر وقدم إلى باريس في سن الثامنة عشرة لنشر قصائده، لكنها لم تنشر. فعاد، بعد سنتين إلى لبنان، فقد قصائده وأدمن على المخدرات، وأصبح هامشيّا بشكل كامل. حين اكتشف والدي الذي كان عسكريًا صارمًا، أمر إدمان أخي، أرسله إلى مستشفى مجانين، حيث تلقّى علاجًا بالصدمات الكهربائية، فأصبح مجنونًا في سن الثانية والعشرين. ولم يكن بالإمكان إنقاذُهُ. وقد تناولت هذه المأساة في رواية "منزل على حافّة الدموع". أمّا رواية "بيت أمام شجر القرّاص"، فقد تناولت أمّي فيها التي كانت تجلس كلّ مساء على عتبة بيتنا، تتأمّل القرّاص، وتقول "غدا سأقتلعها". لكنها لم تجد أبدًا الوقت لتفعل. فقد كانت منشغلة بأمور كثيرة؛ أربعة أبناء، فضلًا عن الظروف المادية الصعبة. في الرواية أحكي عن أمي، أي هذه المرأة الميتة التي دفنت في قريتها على بعد 500 كيلومتر. لكنها تعود، تخترق حرب لبنان، لاقتلاع شجر القرّاص".
لكن سواء أكان الأمر شعرًا أو نثرًا أو رواية، فإن هذه اللبنانية المولودة في بشرّي لا تعبّر عن نفسها إلا باللغة الفرنسية. ما حتم السؤال بالطبع عن علاقتها بلغتها المكتسبة تلك ولغتها الأمّ: "أحبّ اللغة الفرنسية، ولو أسـتطيع أن أنقل اللغة الفرنسية إلى بلد آخر، لفعلت وذهبت إليه. أمّا اللغة العربية، فعلاقتي بها أمومية. أنحدر من قرية بشَرّي، وهي قرية مسيحية مارونية متدينة بشكلٍ كبير وضاغط. وقد قررت مغادرتها، لأنيلا أشعر بانجذاب لأي ديانة. الكنائس جميلة، لكنّ العظات تغضبني. أعود إلى موضوع علاقتي باللغة العربية. أنا مرغمةٌ على الزواج بها، لأنني أترجم منها إلى الفرنسية". وبالطبع كان ذلك بمثابة الباب لسؤالها عن الترجمة، تلك التي أنجزتها، وتلك التي أنجزها غيرها لأعمالها: "ترجمتُ في السابق كثيرًا من الشعر، لأني كنت عضوًا في لجنة تحكيم مجلة "أوروبا". وأعددت ملفًا عن الشعر العربي، حيث ترجمت قصائد لبدر شاكر السياب وأخرى لأنسي الحاج، الذي يعتبر أوّل من نقلنا إلى عالم قصيدة النثر. ولكنه لم يكن طموحًا ولم يفعل شيئًا حتى تنتشر قصيدته. كان في باريس، وكنا نشتغل معًا، في ملحق النهار، كنت أنصحه مثلًا بلقاء الشاعر آلان بوسكيه وآخرين. أنا حزينة فعلاً على رحيل شاعر "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟"، القصيدة التي ترجمتها إلى اللغة الفرنسية. أتذكّر أن أنسي طلب مني ترجمة "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، لكنها لم ترقني كقصيدة. أظنه كان يريد إثارة إعجاب المغنية فيروز من خلالها". أمّا عن ترجمات أعمالها إلى اللغة العربية، فلا تبدو خوري غاتا راضية: "تُرجمتْ بعض رواياتي إلى اللغة العربية، وكنتُ في البداية سعيدة، لأنها كانت مترجمة من قِبَل سمير سعد. كانت ترجمته بسيطة وتقترب من اللغة المحكية. وأما كتابي: "سبعة أحجار للمرأة الزانية"، الذي تُرجم من قبل أستاذة جامعية باللغة العربية الفصيحة، فقد كان ثقيلًا، وحين أرسله لي القائمون على دار الساقي، وقالوا إنهم فخورون بنشر ترجمتي، بكيتُ وأنا أقرأ الكتاب، رغم أني صحّحت الفصل الأوّل لهذه المترجمة، ورجوتها أن تكون الترجمة بسيطة وقريبة من المحكيّة، لكنها لم تفعل للأسف، هكذا جاء الفصل الأوّل جيدًا، بيد أن لجوء المترجمة إلى كلمات عربية صعبة ومقعرة، أفسد الأمر".
وفي النهاية لم يكن بدّ من سؤالها عن جديدها الروائي، فأجابت أنها نشرت للتو رواية بعنوان "المرأة التي لم تكن تعرف كيف تحافظ على الرجال"، وهو عبارة عن نصّ سير ذاتي فقد أرادت فينوس: "لأوّل مرة، أن أعرف لماذا يموت رجالي؟ كثر يقولون إنه من أفضل رواياتي، رغم أني لم أكتبه كرواية. كنت أعاني بشدّة، فكتبت هذه الاعترافات".
المساهمون